مكتبة الأدب العربي و العالمي

أ. د. لطفي منصور خاطِرَةٌ! مَتَى يَكْسِبُ مُجْتَمَعُنا حَضارَةً أَوْ يُرْجِعُ حَضارَةً؟

Lotfy Mansou

مُجْتَمَعاتٌ يَصْعُبُ الْعَيْشُ فِيها، أَوِ الْجُلُوسُ فِيها، أَوِ الْإصْغاءُ لِحَدِيثِها وَمُحَدِّثِيها.
كَلامُهُمْ فارِغٌ وَهُراءٌ لا فائِدَةَ فِيهِ، مُزاحُهُمْ كَوَخْزِ الْإبَرِ، أَلْفاظُهُم دُونِيَّةٌ سُوقِيَّةٌ كُلُّها إسْفافٌ؟ يَتَحَدَّثُونَ صُراخًا، لا يُصْغِي أَحَدُهُمْ إلى الْآخَرِ ، وَلا يَفْهّمُهُ، يَلْتَقُونَ كَما تَلْتَقِي الدِّيَكَةٌ، فَيَتَنافَسُونَ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ وَنَفْثِ دُخانِ السَّجائِرِ، واحْتِساءِ مَرارَةِ الْقَهْوَةِ بِشَغَفٍ.
إذا تَجَرَّأْتَ وَطَلَبْتَ مِنْهُمْ أَنْ يُخَفِّضُوا مِنْ أَصْواتِهِمْ حَمْلَقُوا بِكَ، وَنَظَروا إلَيْكَ كَأَنَّكَ جِئْتَ مِنْ كَوْكَبٍ آخَرَ.
في بَلَدي وَفي غَيْرِها الْمَقاهِي الْجَمِيلَةُ النَّظيفَةُ الْعَصْرِيَّةُ وَفيها الْمُزْدَوَجُ أَيْ مَطْعَمٌ وَمَقْهَى، وَهُناكَ الْكُندوتوريا الرّاقِيَةُ.
اِعْتَدْتُ أَنْ أَخْرُجَ إلَى واحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقاهِي لِأَقْضِيَ ساعَةً مِنَ الظَّهيرةِ مَعَ بَعْضِ مَنْ أُحِبُّ الْأَصْدِقاءِ مِنَ الْمُثَقَّفينَ الدّارِسِينَ وَقَليلٌ ما هُمْ، نَنْعَمُ بِارْتِشافِ الْقَهْوَةِ اللَّذيذَةِ، بِشَتَّى أَنْواعِها، نُرَفِّهَ قَلِيلًا عَنِ النَّفْسِ الْمُثْقَلَةِ بِما يَصْنَعُ الْقَلَمُ وَالْكِتابُ. مَقْهًى يَخْلُو مِنَ النَّرْجِيلَةِ وَالْوَرَقِ . لَيْسَ لَنا
أَحادِيثُ إلَّا الْأَدَبُ وَالشِّعْرُ وَاللُّغَةُ وَالْكُتُبُ الَّتي قَرَأْناها حَدِيثًا.
لا يَخْلُو مَقْهًى مِنْ ثُلَّةٍ مِنَ الزَّائِرينَ الْمُتَقاعِدِينَ الَّذِينَ لَهُمْ شَأْنٌ يُخالِفُ مِمّا نَحْنُ فِيهِ. لَذا نَحْرِصُ أَلَّا نَتَدَخَّلَ فيما هُمْ فِيهِ، وَلا نَمَسّ رَغْبَتَهُمْ أوْ حُرِّيَّتَهُم بِشَيْءٍ يُثيرُهُمْ.
أَكْثَرُ ما يُؤْلِمُنِي وَيُثِيرُنِي فِقْدانُ مُجْتَمَعِنا ثَقافَةَ الْكَلامِ وَطُرُقَ الْحَدِيثِ وَالتَّخاطُبِ.
قالَ لِي أَحَدُهُمْ: حَتَّى مَتَى تَبْقَى تَكْتُبُ وَتُؤَلِّفُ وَتُجْهِدُ نَفْسَكَ؟
أَجَبْتُهُ لَوْ كُنْتَ تَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ لَنا أَسْمَيْتَها جُهْدًا. بَلْ مُتْعَةً لا تَجِدُها في ثَقافَتِكَ الْإيطالِيَّةِ.
الْكَلامُ أَيُّها الْأَعِزَّةُ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ زُبْدَةُ الْفِكْرِ، وَنَشاطُ الْعَقْلِ . يَقُولُ عُلَماءُ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ: إنَّ الْإنْسانَ مَكَثَ مِلْيونَ سَنَةٍ عَلَى هذا الْكَوٍكَبِ حَتَّى تَطَوَّرَ دِماغُهُ وَنَطَقَ بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى، فَلا تُلْقُوا الْكَلامَ عَلَى عَواهِنِهِ، دُونَ تَفْكُيرٍ أَوْ رَوِيَّةٍ.
الْكَلِمَةٌ ثَمينَةٌ جِدًّا، وَهِيَ مَعَ أُخْتِها تُكّوِّنُ عالَمًا مِنَ الْمَعانِي لا يَهْنَأُ بِهِ إلّا الْإنْسانُ.
تَحَدّثُوا بِما تَشاؤونَ، وَاتْرُكُوا غَيْرَكُمْ يَنْعَمُوا بِحَدِيثِهِمْ.
هَنِيئًا لِلْجَمِيعِ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق