مكتبة الأدب العربي و العالمي

حسن إبن التّاجر والدرويش من الفلكلور السّوري رجل غريب في سوق الأقمشة (حلقة 1 )

في قديم الزّمان عاش في حلب تاجر أقمشة، ولم يكن له سوى ابن وحيد، اسمه حسن، فلمّا كبر الرّجل، وشاخ، لزم البيت، وحلّ ابنه مكانه في السّوق، يبيع ويشتري.‏ وكان حسن فتى مليح الوجه، حلو الحديث، لكن ليست له براعة أبيه في التجارة، فقلّ الرّبح ،ولم يكن ذلك يقلق التّاجر فأمام ولده الوقت ليحذق تلك الصّنعة ،وسيصير من أكبر باعة القماش ، وكان في تلك المدينة درويش غريب الأطوار ،يرتدي ثوبا باليا، ويدور في الأسواق ،وينشد :

سيحلّ الجفاف
الجدب والجوع
في الأمصار والبوادي
وكلّ لنّواحي والرّبوع
ستجفّ الأشجار
وتذبل الزّروع
ولن يبقى مطر في السّحاب
ولا على الأرض ينبوع

وكان التّجار يطردونه لمّا يقترب منهم، ويشبعونه ضربا وسبّا ،لكنه لا يبالي ،يرجع دائما للسّوق ،وينشد نفس الشّعر ،وكان الناس ينظرون إليه ثمّ يهزّون رؤوسهم ،ويواصلون طريقهم ،وحتى الشيوخ والفقهاء لم يكونوا يهتمّون بما يقوله الدرويش ،فهم لا يخشون شيئا ،ما داموا يأكلون على موائد السّلطان ،ويرتزقون من خيره .
في أحد الأيّام مرّ الرّجل أمام دكّان حسن، وكان الصّبيان يرمونه بالحجارة حتى أدموا رأسه ،وقدميه الحافيتين، ولا من يرحمه ،فخرج الفتى، وصاح فيهم :ويحكم أيّها اللئام ،إتقوا الله ،فلم يحسن آبائكم تأديبكم !!! ثمّ أدخله عنده، وأحضر له آنية فيها ماء، فغسل له وجهه، وضمّد جراحه ، والرّجل ينظر ،ولا يتكلم ،ثم وضع حسن صينيّة الطعام، وأكلا حتى شبعا، وأثناء الأكل كانا يتحادثان ،وتعجّب حسن من سعة علم الدّرويش، وكلّ ما سأله عن حاله، أخبره أنّه سيعرف ذلك في حينه ،وقبل أن ينصرف الرّجل أعطاه الفتى جبّة جديدة ،وعمامة ،فأعلمه أنّه ليس عنده ما يدفع به ثمن الثّياب، أجابه حسن :إنّها هديّة لوجه الله .وكان التّجار يستقذرون ذلك الدّرويش ،وقالوا وهم يضحكون :لن يأت أحد لدكّان الحاج مختار بعد الآن ،فلا شكّ أنّه مليئ بالقمل ،والبقّ الذي كان ملتصقا بذلك المتشرّد النّتن الرّائحة .
في الغد مرّ الدرويش في السّوق ،واستغرب النّاس من جمال مظهره ،بعد أن لبس الملابس الجديدة ،وشذّب لحيته وقصّ شعره ،ولمّا وصل لدكّان حسن دعاه للدخول وما كاد يجلس حتى أشعل الكانون ،ورمى فيه أعشابا ففاحت من الدّكان رائحة زكية كأنها المسك وبعد قليل صار الزّبائن يدورون فلا يعجبهم شيئ، فيجيئون لحسن ،ويروق لهم كلّ ما عنده، فيشترون منه ،وانزعج بقيّة التّجار ،فلمّا حان المساء لم يبيعوا سوى النّزر القليل بينما كادت البضاعة أن تنفذ من عند إبن التاجر،وحتى الأشياء الكاسدة باعها ،قال الدّرويش : لم يبق إلاّ أن تذهب لدار أبيك ،وتستريح، وفي الفجر تأتي هنا، فستجد خمسة جمال محمّلة بالأقمشة ،إدفع المال لصاحبها، ولا تسأله عن شيئ ،لا من هو ،ولا من أين جاء !ا! هل فهمت يا بنيّ ؟ أجابه :وما يهمّني من ذلك !!! سآخذ بضاعتي ثمّ أتوكّل على الله في الغد تعجّب حسن كثيرا حينما جاءت القافلة التي قال عليها الدّرويش ووقفت أمام الدّكان ،ورأى إبلا حمراء جميلة المنظر وأمامها رجل يلفّ رأسه بعمامة زرقاء ولا لحية له ،قال له :أنزل الصّناديق ولمّا فتح إحداها ،وجده مليئا بحرير سمرقند ،والصين ،والأثواب مختلفة الألوان والأشكال ،فقال له حسن: ما معي من مال لا يكفي حتى لصندوق واحد !!! أجابه الرجل: ما تفعله من خير يردّه الله لك من حيث لا تعلم ،فاشكر ربّك على رزقه ،وخذ بضاعتك ،أراد حسن سؤال صاحب القافلة عمّن يكون فهو ليس من أهل حلب ،وتلك الإبل لم ير في مثل حسنها ،لكن تذكّر وصيّة الدّرويش، فتراجع عن ذلك ،وشغل نفسه بفتح الصّناديق ،وقد هاله ما فيها من نفائس ،وطرائف تليق بالأعيان، وقل في نفسه دون شك هذه البضاعة تساوي مالا عظيما ، ،وفكّر أن ذلك الدّرويش يخفي سرّا ،ثم رصف البضاعة على الأرفف، وانهمك بالبيع والشراء، ونسي أمر القافلة .
لمّا طلع الصباح ،حضر الدّرويش ،وطبخ القهوة على الكانون، ثمّ بخّر كعادته فبدأ الناس يزدحمون على دكّان حسن ،وجنّ جنون التّجار ،ولم يعرفوا ما يحصل ،ولماذا تركهم النّاس رغم جودة بضاعتهم التي أتوا بها من أقصى الأرض ،ومرّت الأيام وسمع الأعيان بحسن ،وصار الأمراء والوزراء يأتون للشراء من عنده ،وحاول التّجار الكيد لحسن ،ورشوة ناظر السّوق ليأتي، ويغلق دكانه ،وزعموا أنّه يتحيّل على المشترين ،لكنّ الرّجل لما جاء ،وشمّ تلك الرائحة العطرة من الكانون، استرخت نفسه ،ورجع إلى التّجار ورمى عليهم مالهم ،وقال: والله لم أر أحسن من ذلك الدّكان ،ولا أجمل وجها من البائع ،فسبّوا ناظر السّوق، واتّهموه بأنّ حسن دفع له أكثر مالا منهم ، لكي يتركه في حاله .
،وتناقل أهل القصر خبر دكّان الأقمشة الذي وسط سوق حلب، وما فيه من خيرات ،وأيضا عن الولد حسن ،وبلغ ذلك الأميرة خلود ،فقررت أن تذهب مع وصيفاها لرؤيته بعدما بلغها عن جمال وجهه ،فاحتجّت عند أمها أنّها تريد شراء ثوب من الحرير المطرّز ،فردت عليها الملكة :ويحك يا إبنتي، لك من الحرير والأثواب ما يعمّر سوقا للقماش، ولا تزالين تريدن الشراء ؟ فردّت خلود :لم أشتر شيئا جديدا منذ فترة طويلة ،هل تريدين أن تسخر مني صديقاتي ؟ وفي النهاية قالت لها أمّها :إذهبي ،أمري لله …

يتبع الحلقة 2

طارق السامرائي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق