مكتبة الأدب العربي و العالمي
حكاية يحيى وماريوس أبناء يوحنّا من زمن الخيال الفتى يغرم بالكيمياء (الحلقة 2 )
بقلم : أنيس بن هالي
كان أبو إسحاق يسمع ويتعجّب ،وقال في نفسه :كيف أمكن له تعلم كل هذا رغم سنه؟ تكلم يحي ،و قال : خذني مع تلاميذك ،ولن تندم يا معلّم !!! زادت دهشة الطبيب من فصاحة الغلام ،قال له حسنا سأسألك لكي أرى مقدار علمك بالنّبات ،لأيّ شيئ يصلح الزّنجبيل في الطب؟ أجاب هذه النبتة تنمو في الصين والهند، ويسمّونها طعام الملوك ،وهي مليّنة للمعدة تصلح في الهضم ،وتطرد الغازات، وهي نافعة في الصّداع والحمّى، وترطيب الجلد وتقوية البصر،وتعقيم الجروح …ربّت الطبيب على ظهر يحيى ،وإلتفت إلى الشّيخ يوحنا وقال له : لقد أحسنت تأديب الغلام ،لن يجد صعوبة في فهم ما أريده منه، بإمكانه أن يبدأ اليوم مضت الأشهر ،ويحيى يتعلم من الطبيب ،وكان حريصا على معرفة كل شيئ ،ووثق أبو إسحاق فيه وأوكل له تحضير بعض العقاقير وعادة لا يقوم التلاميذ بذلك إلا بعد عام لكن يحيى أظهر نبوغا مبكّرا ،وفات كل أقرانه .
أحد الأيام أتاه الطبيب وقال له كان بودي أن تبقى معي لكن أبوك في حاجة إليك ،وسيعلمك أشياء كثيرة ،عن خواص الأحجار واستعمال الزئبق لاسخراج الذهب من المعادن ،وأشياء أخرى ،لقد أصبحت عندك الآن المعارف الكافية لتبدأ تعليمك ،وستقوم مع أبيك بتجارب في الكيمياء ،فله معمل في القبو ،مثل الذي عندنا في البيمارستان ،وأنا متأكد أنه سيكون لك شأن في هذه الصنعة ،وليباركك يسوع .كان يحيى منذ صغره يحس بنظرات عائلة يوحنا ،وامتعاضهم منه لسمرة لونه ،وكانوا يفضّلون ماريوس ولد سلمى التي ماتت وهو صغير،أمّا أخوه فكان يحبّه رغم أنّه ليس إبن أمّه ،ويداعبه باسم كافور ،ولم يكن ذلك يغضب يحيى .
لكن عندما بدأ الجميع يستعمل ذلك الإسم للإستهزاء به أحسّ بالظلم ،وبكى كثيرا ،لكنّه جفّف دموعه ،وقال في نفسه : لمّا أكبر سأصبح أفضل منكم وستقبّلون طرف قدمي أيّها الأوغاد !!! وصار يجتهد في الدّرس والتّعلم ويتعب نفسه رغم سنّه .بمرور الأيّام لم تعد الألسن الخبيثة تذكره بالسّوء ،وشجعّه ذلك ،وصار أساتذته يشكرونه على إجتهاده ،وفرح الشّيخ يوحنا باهتمام الصّبي بالكيمياء ،وشغفه بالمعمل ،وكان ينزل دائما إلى القبو للّعب بقوارير وأنابيب أبيه ،ولمّا يتعب يجلس ويفتح الكتب والأوراق ويتفرج على ما فيها من رسوم بديعة ثم شرع رويد رويدا في قراءتها ،و كان يجد في ذلك لذّة عظيمة ،وينسى ما هو فيه من حزن بسبب لونه
عندما رجع يحيى للدّار قال له أبوه:سنبدأ الآن يا بني ،واعلم أنّي أمضيت وقتا من حياتي وأنا أدرس الأحجار والمعادن واكتشفت كثيرا من الأشياء وصحّحت بعض المفاهيم القديمة،وقد دوّنت كلّ ذلك في أوراق ،وسأعطيها لك لتقرأها ،وما لا تفهمه سأشرحه لك ،أمضى الشّيخ المساء في الحديث عن صنعة الكيمياء، وكيف إرتبطت بالسّحر والتّنجيم ، وكانت تدعى الخيمياء ،وعن زوزيموس المصري الذي ألّف أوّل الكتب في هذا العلم، في القرن الثالث قبل الميلاد، وعن حلم الخيميائيين بالتّوصل إلى حجر الأكسير الذي يحوّل النّحاس إلى ذهب، والعرب الذين يسمون هذا العلم بالسّيمياء ،أو الصّنعة الإلاهية .
كان يحيى يستمع بإنتباه، وقد زاد حماسه ،وقال :هل توصّل أحد منهم لذلك يا أبي ؟ أجابه :لا أحد يعلم، لكن من المؤكّد أنّ كبار كهنة الكلدان، و اليهود كانوا يعرفون السّر، والذّهب الموجود بمعابدهم هو من هذه الصّنعة ،وهذا الحجر ينفع أيضا في الشّفاء من الأمراض، ويقال أنّ قدماء المصريين كان عندهم المسحوق الأبيض الذي يضيفونه لطعام ملوكهم فلا يمرضون ،وقد كان المسلمون ينظرون بعين الريبة لكلّ الكيميائيين ويعتبرونهم من السّحرة ،وهذا نتيجة سيطرة الأفكار القديمة عليهم، رغم أنّ الكيمياء صارت الآن علما له مجاله، ولا علاقة له بالبدايات الأولى ،لكن الأمور بدأت تتغيّر الآن ،وإلا لما إجترأت على القيام بهذه المهنة في وضح النهار،ثم إلتفت حوله ،وسأله: أين أخوك ؟ فلقد تأخر كثيرا ،وهذا الولد بدأ يتعبني ،فهو يمضي نهاره في ركوب الخيل ،والتسابق مع أقرانه ،ولا يستمع لنصيحتي لا في القراءة أو تعلم مهنة ،فأنا لن أدوم له ،وليس عندي مال لأعطيه إياه ..
…
يتبع الحلقة 3
بقلم : أنيس بن هالي