مكتبة الأدب العربي و العالمي
مدينة العميان
كان يا مكان في قديم الزمان بلاد تحت الجبل يشتغل أهلها في دباغة الجلود وكانو بسطاء لا يعرفون سوى هذه المهنة التي ورثوها أبا عن جد لم يكن يوجد في تلك البلاد مدارس فهم يقولون أن الصنعة أحسن من العلم ولذلك ليس فيهم من يعرف القراءة والكتابة وفي أول كل شهر يمر بهم أحد التجار يقايض بضاعتهم بما يلزمهم من القمح والزيت واللباس ونادرا ما يدفع لهم مالا . ونتيجة لنمط عيشهم لم يكونون بحاجة إلى أشياء كثيرة وبيوتهم مبنية بالحجارة والطين ومسقوفة بجذوع الأشجار والقش وفي الغابة القريبة يجدون الحطب والأعشاب الطبية والأرانب والطيور لم يكونوا يذهبون إلى أحد ولا يجيئهم إلا بعض تجار الجلود الذين يعرفون تلك البلاد .
كان لأحد الشيوخ ثلاثة أبناء ولما كبروا قليلا بدأ تعليمهم صنعة آبائه لكن أحدهم وإسمه سعيد لم يكن يعجبه ذلك و كان يركب كل يوم حمار أبيه ويبتعد عن قريتهم ويرى الناس والأسواق ويسمع الباعة يصيحون على بضائعهم ولما يعود لا يرى إلا الجلود معلقة وأهل القرية يشتغلون في صمت هنا لا أسواق ولا ضجيج سأل أباه لماذا هذا الإنغلاق لماذا لا تفعلون مثل بقية الناس تبيعون وتشترون ويقوم كل واحد بالحرفة التي تشتهيها نفسه .
ڠضب أبوه من هذه الأسئلة وأجابه هذه حياة آبائنا وأجدادنا وبفضل ذلك ليس عندنا لا طمع ولا كڈب ولا سړقة !!! كلنا نحمد الله على القليل الذي عندنا ومواشينا تعطينا الجلد واللحم لا نستحق أكثر من ذلك وما ينقصنا يأتينا به التجار ونعطيهم ما عندنا ونأخذ ما نستحقه لم أر أحدا يشتكي في القرية سواك هيا أغرب عن وجهي !!! ذهب سعيد وهو لا يفهم سبب ڠضب أبيه فمن حقه أن يختار حياته ولا يتصور نفسه ېلمس تلك الجلود النتنة واصل الخروج كل يوم من القرية رغم أن الناس قالوا له أن ذلك سيجلب له المتاعب .
وذات يوم إبتعد كثيرا كان يريد أن يرى المدينة التي سمع عنها كثيرا و من شاهد مآذنها العالية فقال يوما ما سأدخل إليها وأتفرج على ما فيها بينما هو كذك مرت به عساكر الباي فوقف ينظر لهم بإعجاب وهو يرى نظامهم وزيهم الجميل فتشجع وقال لقائدهم ماذا علي أن أفعل لأنضم إليكم أجابه تعال غدا إلى ثكنة العساكر في طرف المدينة وسنرى إن كنت تصلح أم لا !!! فرجع وأخبر أباه برغبته فصاح الرجل ما الذي دهاك لتقترب من المدينة فناسها أشرار لا يعرفون الرحمة وستندم إذا ذهبت إلى هناك !!! لكن الفتى أصر على رأيه فجاءت أمه وكانت تحبه لأنه أصغر أبنائها وقالت لزوجها دعه يذهب ليجرب حظه لعله يصبح من عساكر الباي ونفتخر به
ولما وصل أخبرهم برغبته في الإنضمام لعساكر الباي فرمقه أحدهم بطرف عينه وسخر منه وقال خذ حمارك وإنصرف فهذه ليست مهنة البدو !!! لم يرق ذلك لسعيد ورد عليه سأريك ما يفعله البدو ثم منه فوقع العسكري على الأرض فجاء رفاقه مسرعين لكن لم يقدروا عليه سمع القائد الضجة فأطل من النافذة فرأى عساكره يتعاركون مع ولد فوقف يتفرج وقد أعجبته شجاعته ثم صاح ويحكم توقفوا وقولي لي ما حدث !!! تقدم الولد وعينه متورمة وحكى له قصته فقال له آه ..تذكرتك لقد رأيتك البارحة من اليوم أنت واحد منا !!!سأله سعيد ألن تختبرني يا سيدي ضحك وأجابه خمسة من عساكري لم يقدروا أن يغلبوك أليس هذا كافيا قال الولد سأرجع الآن وأخبر أبي وأمي وآتي غدا سار سعيد في طريقه والدنيا لا تسعه من الفرح وكان يضرب الحمار ليسرع ولما وصل أخبرهما ففرحا وفي الصباح أعدت الأم لإبنها جرابا بالطعام وذهب معه أبوه وسارا حتى إقتربا من المدينة فقال سعيد لأبيه أدخل معي لكن الأب تردد وأجابه ليس الآن المرة القادمة كان سعيد متحمسا ويطيع القائد في كل ما يأمره به فأعجبه وأكثر من ذلك أظهر براعته في الرماية ولم تمض سنة حتى صار ضابط صف وسعد أبواه بذلك أحد الأيام قال له القائد سآخذك إلى قصر الباي مع سرية من العساكر فهناك حفلة لعيد ميلاد إبنته صفية يحضر فيها كبار الأعيان لما وصلوا إنضم القائد للمدعوين أما سعيد فوقف على باب القاعة الكبيرة ينظر لما حوله وهو متحير لمظاهر الرخاء والبذخ فجأة دخلت إبنة السلطان مع رفيقاتها ولما التفتت إليه أحست أنه ينظر إليها بدهشة .دخلت الفتاة لكن بقي بالها مشغولا به فقد كان سعيد فتى طويلا و جميل الوجه إنهمك الجميع في الأكل والغناء أما صفية فبقيت صامتة .
فهمت أحد البنات سبب شرود صفية ونظراتها نحو الباب فأمسكت سعيد من ذراعه وأدخلته القاعة ولما رأته بنت الباي أمامها إحمر وجهها وتلعثمت أما هو فنزع قبعته وحياها بأدب دون أن يرفع نظره عن الأرض وقال أجمل الأعياد لمولاتي ثم دار لكي يخرج لكنها قالت يمكنك الانضمام إلينا فالأكل كثير !!! مد سعيد يده وأخذ طبقا ملأه بالحلوى وبدأ يأكل مع الأميرة فطابت نفسها وأكلت هي أيضا .ولما إلتفت القائد شاهد صفية تضحك مع سعيد فإنزعج وهم بالذهاب إليه لكن الباي أومئ له برأسه وقال دعها ولا تفسد عليها عيدها كان الباي يحب إبنته كثيرا ولما رأى الفرحة على وجهها وسمع ضحكتها عرف أنها متعلقة بذلك الفتى سعيد فأمر بتعيينه ضمن حرسه وأصبح يرافقه في كل مكان يذهب إليه ويخرج معه للصيد وكان سعيد بارعا في الرمي ولا يخطأ الهدف فإنبهر به الباي وأمر بترقيته إلى ضابط برتبة يوزباشي وجعله رئيسا للحرس. بدأ غرور سعيد يزداد وأصبح نادرا ما يذهب لرؤية أهله وتوقف عن إرسال المال لهم وصار كل همه الثراء ولا يخجل أن يطلب مالا من إبنة الباي ويختلق كل مرة عذرا ولم يمر أقل من عام حتى إشترى دارا كبيرة لكنه لم يكتف بذلك وزاد جشعه وأصبح يتأفف من الفقراءويبتعد عنهم كان يريد أن ينسى الناس أنه من جبل العميان وأن أبواه فقيرين يصنعان الجلد . أحد الأيام مرضت أمه عليه فلم تره وتسمع أخباره منذ مدة طويلة فحمل له أبوه جرابا من الطعام الذي يحبه وركب حماره إلى المدينة ولما وصل إلى ثكنة العساكر أعلموه أن إبنه صار رئيس الحرس في قصر الباي وأنه تغير كثيرا فتعجب الشيخ وقال في نفسه من كان يظن أن ذلك الولد الفقيريصل إلى هذه المكانة لقد كان على حق بالخروج من ذلك الجبل وربما حان الوقت لنا جميعا لنفعل مثله كان يمشي ويفكر حتى وصل أمام باب القصر وفي تلك اللحظة كان الباي خارجا مع إبنته ولما رأى الشيخ مع حماره قال لسعيد ماذا يفعل هذا القذر أمام بابي أطلب منه أن يذهب للجامع إن كان يبحث عن الصدقة !!! أحس الفتى بالحرج لرؤية أبيه بملابس مهترئة وحذاء مثقوب ولم يجرأ أن يسلم عليه أمام إبنة الباي صفية فماذا ستقول إن عرفت أنه أبوه فرح الشيخ لما لمح إبنه قدامه وفتح ذراعيه لكن سعيد دفعه في صدره وصاح في وجهه خذ حمارك وإبتعد من هنا !!! هل فهمت لم يصدق الشيخ ما فعله الولد وقال له ويحك !!! أتخجل من أبيك الآن حسنا سأذهب وخسارة فيك كل دمعة ذرفتها أمك ثم راح في سبيله وهو يبكي ويشهق ولما وصل إلى داره حكى لإمرأته ما حصل ولم يحتمل جسمه الضعيف الصدمة فمرض ولازم الفراش واضطرت المرأة لتخرج للعمل .سمع الجيران وجاءوا لمواساة الشيخ الذي قال لهم لقد نسي كل ما فعلته من أجله وكم من مرة بت جائعا ليأكل هو وإخوته لن أنس نظرة الإحتقار التي رمقني بها لقد تمنيت حينها أني مت قبل أن أرى تلك الإهانة !!!
أما سعيد فلم يحاول حتى أن يسأل عن أبيه ويعتذر منه وأصبح يقضي وقته مع صفية ويتعلم منها كل شيئ اللياقة وآداب المائدة وحتى الرقص والرسم وأحد الأيام اعتصم الشيخ مصطفى بن عمار في ساحة جامع الزيتونة واحتج على تخفيض أجور رجال الدين وعجز جيش الباي فقال سعيد سأذهب على رأس الحرس وأفض الإعتصام!!!ولما وصل أخذ بندقيته وصاح إستسلم يا شيخ ولن يحصل لك شيئ !!! كان الشيخ على بعد مئات الأمتار منه وسط الناس ولما سمعه أجابه الآن يرسل الباي خدم القصر ليس لي ما أقوله لك !!! وما كاد يتم كلامه حتى عرف سعيد مكانه وأطلق عليه الڼار فأصابه في رأسه وصاح في الناس العقاپ في طريقه إليكم من يريد منكم ثقبا في رأسه مثل الشيخ ففر القوم وتركوا أمتعتهم وحتى أحذيتهم وحين سمع الباي أعجب به وبإخلاصه ورقاه إلى رتبة قائم مقام رغم سنه وأصبح يفكر بتزويجه بابنته فكل تصرفات سعيد تدل أنه من النبلاء لكن عليه أن يسأله عن عائلته فهو لم يسمع بهم من قبل . في الليل حلم الباي حلما مخيفا ورأى أفعى لها رأس آدمي تحيط بصفية وهي فرحانة تضحك فاستغرب من هذه الرؤيا الغريبة ومرت ثلاثة أيام وهو يرى نفس الحلم ففزع ونادى العرافين لكن لم يقدر أحد منهم على تفسير ذلك الحلم وفي أحد الأيام كان يتجول في أحد الأسواق فاقتربت منه عجوز شمطاء وقالت له لقد سمعت بحلمك هات صرة من المال وسأفسر لك السر المكنون الذي خفي عن العيون !!!
وأنت من جعلتها تعظم فضړب الباي على جبهته وصاح كم أنا أحمق !!! لقد جاء ذلك الفتى سعيد إلى قصري وتعلقت إبنتي به وعظم أمره دون أن أعرف شيئا عنه ثم بدأ يسأل عنه لكن لا أحد يعلم عنه شيئا
إستدعى الباي وزيره وقال له ستذهب للسؤال عن سعيد في المدينة ولو لزم تطرق أبواب جميع البيوت !!! بدأ الوزير يدور ويسأل حتى تعب فجاء تحت شجرة وجلس وهو يمسح عرقه وقال لقد سألت جميع الناس الذين أعرفهم من الشيوخ ولا أحد منه سمع عنه أو عائلته من المؤكد أنه ليس من هنا وللحق في الباي أن يقلق !!! بينما هو يفكر جاءه رجل رث الثياب وقال له سمعت أنك تسأل عن ذلك الفتى رئيس الحرس !!! أجابه نعم لكن من أنت أجاب الشيخ ولدنا عميانا وعشنا في الستر ومن يخرج لا يعود منا ولا يرجع أبدا كما كان !!!
حك الوزير لحيته وقال أعترف أني لم أفهم شيئا فما علاقة ذلك بسعيد قال الرجل إبني عاش في بلدة بعيدة ولانغلاقها الشديد أطلق عليها الناس قرية العميان وأحد الأيام ذهب للمدينة وأصبح من حرس الباي ونسيني أنا وأمه وصار يخجل منا وفي أحد الأيام رآني أمام القصر فطردني كالكلب لكي لا يراه أحد معي !!!لقد إنفتحت عينيه ولن يملئهما اليوم شيئ لا مال ولا جاه !!! فهم الوزير الحكاية وأسرع للباي وقص علىه ما سمعه فلم يصدق أذنيه وأمر أن يسجلوا كل ما يملكه رئيس الحرس وحين رأى ما في الورقة قال بدهشة والله أبوه معه حق فليس أشد جشعا من عين تبصر بعدما كانت في عماء .
حجز الباي على ما عنده من عقارات وخلعه من منصبه ثم استدعاه أمامه وصاح في وجهه كيف تخجل من فقر أبيك وتطرده إن لم يجد فيك خيرا فهل سأجده أنا أو ابنتي والله لو كنت أعلم أن ذلك الشيخ أبوك لأكرمته في قصري نظر سعيد إلى صفية لتقول شيئا لكنها كانت حزينة وأشاحت عنه بوجهها أ درك الفتى أن كل شيئ قد انتهى فخرج يجر أذيال الخيبة كما جاء أول مرة لكن وجد أباه في انتظاره وقال له هيا نرجع يا إبني إلى قريتنا أليس هناك أفضل على الأقل لا نرى ولا نطمع في رزق غيرنا كما فعلت !!! واعلم أن الإنسان سيئ بطبعه ونفسه أمارة بالسوء لقد عشت حياتي ولم أسمع أحدا يسب أو يسرق أو ېكذب لأن العمى علمنا القناعة
بكى سعيد وعانق أباه وقال له لقد تعلمت درسا لن أنساه !!! لكني أحب صفية بصدق ولا أقدر أن أرجع معك سأبقى هنا وأشتغل بجد ولن أمد يدي للمال الحړام .فتح الولد دكانا مع أبيه في السوق لصناعة الجلد واكترى منزلا وأحضر أمه وإخوته واشتغل الجميع بجد وبعد أشهر كبرت تجارته وأصبح الناس يأتونه من بعيد لدقة صنعته وأمانته . أحد الأيام نزلت صفية للسوق لشراء حقيبة من الجلد وبدأت تمشي وتتفرج .فلفت إنتبابها دكان كبير لم تره من قبل ولما دخلت رأت البائع يقبل رأس أبيه فأعجبها أدبه زيادة على جودة البضاعة ولما إقتربت منه وجدته سعيد وقد لبس جبة مطرزة وشاشية حمراء فسلم عليها بحرارة وقدمها لأبيه وأمه الذان أحضرا لها الشاي والحلوى وفرحا بها كثيرا .
لما رجعت صفية لاحظ الباي أنها مسرورة على غير العادة وصارت تكثر من الخروج . في أحد الأيام
سألها لم تعودي ترتدين أثوابك الغالية وبلغني أنك تصدقت بالكثير من المال
أجابته قد يكون العمى أرحم من البصر وقد نجد في الظلام قناعة أنفسنا قال الباي بدهشة من علمك هذه الحكمة أجابته قرية العميان …
النهاية
من قصص حكايا الاعمال الاخر