مكتبة الأدب العربي و العالمي
حكاية الفتاة المخطوفة حلقة 14 والأخيرة )
قالت مريم : إنّي لا أطيقه يا أبي !!! قكّر الباي قليلا ،ثم قال لها: ألا زلت تحبّين ذلك القرصان ؟ إندهشت البنت ،ورمقته بحدّة، ثم ردت: وما الذي ذكّرك به الآن بعد كل هذه السنوات ؟ قال لها أجيبيني بنعم أم لا ،وحين رأت الجدّية في وجهه، وعلمت أنه لا يمازحها ،قالت بلهفة :هل عندك أخبار عنه ؟هيّا قل كلّ شيئ ،فقد أثرت شجوني ،في تلك اللحظة دخل جيوفاني والإبتسامة تعلو وجهه ،فجرت إليه وارتمت في حضنه ،وهي تتمتم: هل هذا أنت يا حبيبي؟ كم لفحتك الشّمس في البحر ،حتى صرت مثل الخوخة النّاضجة ،قال الباي : هناك شيئ آخر ،وأخرج لها الوشاح الأزرق فأخذته، وبدأت تشمّه وهي تنظر بعينيها حولها ،وتصيح أين هي أريد أن أرى إبنتي !!! فسمعت صوتا يقول وراءها : أنا هنا يا أمّي !!! ولمّا إلتفتت ورأت ثريّا بشعرها الأشقر الجميل ،شهقت ثم سقطت على الأرض مغمى عليها ،لم تعرف كم من الوقت ظلت على هذه الحالة، ولما فتحت عينيها ،وجدت ثريا تحملق فيها ،وجيوفاني يضع منديلا مبللا على جبينها ،فأحسّت بسعادة طاغية لقد كانت تخشى أن تكون في حلم جميل يتبدّد من أمامها حين تستيقظ ،لكن كانت هذه الحقيقة .وفي الغد طلقها الباي من زوجها ، والقى به قبو ضيق كي لا يتكلم في إبنته بالسوء بعد الآن .
وبعد شهر إعتنق جيوفاني الإسلام، وصار إسمه جمال الدين، ورجعت البهجة إلى مريم ،وأثناء هذه المدّة بدأ الباي بإقالة كبار الحاشية ،واتهمهم بنهب الرعية ،وجمع ثروات طائلة ،وكان لبعضهم نفوذ واسع ،وحاولوا الإنقلاب عليه وبذلوا الأموال لإثارة الفوضى لكن جيوفاني الذي أصبح قائد بحرية الباي هزمهم، وأحرق ديارهم ،وجاء بهم للسّاحة العامّة وسط المدينة ،فضرب رقابهم ،وطاردت العامّة جميع المرابين والمحتكرين في الأسواق ،وخرّبوا دكاكينهم ،لقد كانت ثورة على نظام فاسد أنشأه الباياتى ،وانتهى بإغراق الإيالة في الفقر والجوع ،وبفضل ثريا إستفاق الباي، وعرف أن السعادة ليست في المظاهر أو إنفاق الأموال على اللهو ،بل رضى الرعيّة ومحبّتها ،ولم يجد سوي أبناء الشّعب لمحاربة جشع الأعيان و النّبلاء في حين خذله جيشه و كبار القادة ،وحين إستتبّ الوضع للباي ،أحاط نفسه بأهل العلم والفضل، وجعل حسن على رأس حرسه ،وعيّن مملوكا ربّاه في القصر صاحب الطابع، ثم خرج المنادي يصيح في الأسواق أنّ الخميس هو يوم عرس جمال الدين ومريم ،وابنتها ثريّا و حسن وأيضا أربعين من الطليان الذين أسلموا ،والتحقوا بالأسطول الملكي .
فابتهج النّاس ،وشرعوا في تزيين الشّوارع والأزقة، فلم يحدث أن سمعوا بعرس بهذه الضّخامة ،وبعد الأيام الصّعبة التي عاشتها المملكة ،فرح النّاس وغنّوا ،وأكل الكبير والصغير ،وتصدّق الباي على الزّوايا ،وكسى العريان، وكان عهده فترة عزّ وازدها ولأوّل مرّة إنقطعت غارات القراصنة على السّواحل ،ولقوّة الأسطول التونسي في ذلك الوقت استعان به السّلطان العثماني في حروبه ضد الاسبان والرتغاليين ،والآن نسى النّاس قصّة ثريّا البنت التي دافعت عن بلدها أمام القراصنة ،ولا تعلم أنّها أميرة وحفيدة باي تونس ،وأخذت حقّها بفضل شجاعتها ،رماها جدّها ليتخلّص منها لكنّها عادت ، وحاربت الظلم ،وفي الأخير قام سعدها ،ووجدت الصّدر الحنون الذي حرمت منه فقط لأنّ أمّها أحبت رجلا ليس من ملتها …
….
حكايا زمان