تقول صاحبة القصّة: لم أكن على قدرٍ عال من الجمال ، كنت فتاة عادية جداً أو ربّما أقلّ من ذلك ،ولعلّك لا تفهم أن الجمال هو مشكلة كلّ أنثى ،والحلم الوهمي الذي تسعى للوصول إليه. كانت عيناني سوداوان، وشعري مجعّد ولي بشرة مائلة للسمرة ، أسمي علياء ،لكنني في الحقيقة ليس لي من العلوّ والرفعة إلا التسمية فكما يقول الناس لا مال ولا جمال ولا حسب ، أبي رجل بسيط يعمل سائق على إحدى عربات الأجرة التي لم يكن يملكها، لكنه كان يقتسم العائد المادي مع صاحب العربة في نهاية كل يوم ، وهو رجل طيب وأمي امرأة ريفية مكافحة وشريفة تقف مع زوجها جنباً إلى جنب ، تشتري اللبن والبيض من نساء القرية كل مساء ، وفي الصباح الباكر تذهب إلى المدينة كي تبيعه في الأسواق ، منهم من يمنحها مبلغاً زائداً عن حقها، ومنهم قليل الذوق الذي يقطع أنفاسها في المساومة ولو كان ذلك بضعة ملاليم غير ممقدّرين لما تعانيه هذه المسكينة من شظف العيش وتدني احالتها.
كنت أحمل معها حاجيتها كل صباح لأوصلها إلى مكانها المعتاد بالسوق، ثم أتجه إلى جامعتي بثيابي البسيطة، وهيئتي القروية ، و كنت مطمئنة بخصوص مسألة الزواج فـ “عبد الفتاح ” إبن الجيران يظهر لي الحب والمودة ولطالما حدّث أمي بأنه ينوي أن يتقدم لخطبتي بمجرد أن يجمع مبلغاً معقولًا من المال يمكنه من الزواج بي،ورغم أنه كان عاملا في محل بقالة فلم أمانع في الزواج ،بالنسبة لي الحب كل شيئ ،وأقول لكم الحق فأنا لم أعد أحلم بشخص له مأهّل جامعي ووظيفة مرموقة ،فمن ييقبل بفتاة في حالتي لا تملك شيئا من حطام الدنيا
أحد الأيام وبدون سابق إنذار تعرض أبي لحادث فظيع كانت ضحيته روحه الطاهرة، وبدون مقدمات تركنا أبي دون وداع أو استعداد للحياة بدونه ، لم تحتمل أمي الصدمة وأصيبت بالشلل التام ، وفجأة وجدت نفسي أمام ثقل المسؤولية، قررت أن لا أترك الجامعة رغم المشقة ، والتمسك بحلم التخرج .بين عشية وضحاها أصبحت العائل الوحيد ، لأمي المريضة ولأخي الصغير وكل صباح أجمع البيض والجبن واللبن ،وأنزل به إلى السوق وأحاول جاهدة بيعه بسرعة ثم الذهاب سريعاً للجامعة لألحق المحاضرة .،وكلّ الحقّ لقيت كلّ المساعدة من الجيران الذين إهتمّوا بأمّي في غيابي ،فلقد كانت إمرأة تحبّ الخير ،ولم ينسوا معروفها معهم .
مرّ الوقت، ولاحظت أنّ خطيبي عبد الفتّاح صار يتهرّب منّي،حتى جاء اليوم الذي مرّ فيه بالسّوق فرآني أفترش الأرض ، وأمامي سلّة بها زجاجات اللبن و الجبن و البيض، ومعي كتاب أقرأ فيه ،وكلّ مرّة يأتي زبون فأتوقّف ،وكان بصري يجول بين السّطور دون تركيز ،وفجأة وجدته واقفا أمامي ،وأعصابه مشدودة ، وأخيراً استجمع شجاعته ،وقال: أنا آسف ،أريد منك نسيان موضوع الزّواج ،فلا أعتقد أنّك ستنجحين ،ومستقبلك هو بائعة لبن !!! أجبته : وما الذي يعيب في أنّي أكسب رزقي بعرق جبيني ؟ لم يردّ ، ونظر إلي باحتقار ، ثم إنصرف، قلبت زجاجات الحليب التي أمامي ،ولعنت حظّي ، فلم يمض شهر على رحيل أبي ،حتى قرّر ذلك اللئيم أيضا الإبتعاد عنّي ،ليزيد في أوجاعي .
إكتشفت أنّه لم يحبّني قط،وكلّ ما يعنيه شهادتي، والمركز الذي سأتحصّل عليه بعد التّخرج، الذي بقيت عليه سنة ،تبّا هل نسي أنّه عامل بقالة ؟ وشرعت في البكاء كما لم أبك في حياتي ،وفكّرت أن أقتل نفسى لأرتاح ،،لكنّي إستغفرت الله ،وكفكفت الدّموع التي بللت وجهي …
…
يتبع الحلقة 2
من قصص الحياة حكايا العالم الاخر