مكتبة الأدب العربي و العالمي
القريه_المخيفه / الجزء السادس
《الآن هم يشكون في معرفتك للحقيقة، ولن يسمحوا لك بالرحيل أبدا وأنت تعرفها … أهرب قبل أن تضيع الفرصة.》
نظرت في عينيها، وأنا أقول بصوت خافت:
– هل تأتين معي؟
ابتسمت ابتسامة مريرة، وهي تقول:
– لا استطيع، من يولد في هذه القرية، يبقى فيها، ولا يتركها حتى آخر يوم في عمره.
قلت بعناد:
– إذا سأبقى.
– لا يمكنك ان تفعل هذا، إنه انتحار.
صمتت للحظة، ثم أردفت بصوت حزين:
– كما أنني صرت مثلهم، هل نسيت!؟ … لقد كنت أرفض وبشدة ذلك التحول ولكن والدي أجبرني عليه، فشعرت بالفزع وهربت في تلك الليلة، ووجدت نفسي أمام باب الوحدة الصحية … لم أكن أرغب في ذلك ولكن شفاء جرحي بتلك الطريقة دليل على أن التحول قد بدء بالفعل.
كنت أشعر بشئ ما تجاه تلك الفتاة الجنوبية، الحسناء، الثائرة، لقد اقتحمت عالمي في لحظة واحدة، والآن أصبحت جزء أساسيا منه، فقلت لها محاولا إقناعها:
– تعال معي، وسنجد علاجا لذلك.
– لا يوجد علاج … أنا لا ألوم أبي على ما فعله، فهو فعله بي كي يشفيني من مرض كاد يودي بحياتي، الآن أنا أشعر بالصحة والعافية، قد لا يكون الأمر بهذا السوء.
صمتت للحظة، ثم أردفت بصوت متهدج:
– أرجوك أرحل، فأنا لا أريد أن يحيق بك أي مكروه، لا أريد ذلك أبدا.
أخذت أفكر للحظات ثم زفرت في يأس، وأنا أقول:
– حسنا … ولكن عديني أن تعيدي التفكير الليلة فيما طلبته منك، ولو غيرت رأيك فسأنتظرك هنا بعد الفجر لنرحل معا.
ارتسمت على وجهها ملامح الارتياح، وهو تقول بابتسامة هادئة:
– أعدك … ولكن عدني أنت أيضا أن ترحل وحدك إذا لم آتي، ولا تنتظر دقيقة واحدة.
– أعدك.
كانت قد بدأت تسير مبتعدة بالفعل، فسألتها بصوت عال، قبل أن تذهب:
– هل أهل القرية جميعهم من المتحولين!؟
فالتفتت لي قائلة:
– لا … تقام تلك الطقوس لمن يرغب من الشباب بعد بلوغ العشرين عاما، أحيانا تنجح ويتحول الشاب إلى ذئب يجوب أرجاء القرية في الليالي القمرية الثلاثة، وأحيانا لا تنجح فيعيش بشريا حتى آخر عمره، والبعض يمرض بسبب تلك العضات وقد يموت ولا يشفى من أثرها.
سألتها مجددا، وكنت أرغب في أن أجعلها تبقى معي بعض الوقت:
– وما فائدة ذلك التحول !؟
– القوة الهائلة، والشفاء من الأمراض … يقول من جرب هذا الشعور أن شعور رائع لا يمكن وصفه، شعور بالقوة والتحرر.
– وهل يسقط ضحايا بسبب ذلك؟
ابتسمت بحزن وهي تقول:
– عندما يتحول المرء إلى ذئب يفقد بشريته تماما ويمسي حيوانا مفترسا، الجميع يأخذ الحذر، ولكن الحوادث تحدث أحيانا.
***
نمت ساعتين من التوتر والعذاب، من تلك الساعات النابغية التي يفرشن فيها العائدات هراسا يعلو الفراش ويقشب، وصحوت قبل الفجر بدقائق، فأعددت حقيبة صغيرة مما يمكن حمله، بالتأكيد لن يكون متاحا لي أن أهرب بحقيبة سفري كلها، كنت أفكر في التراجع عن الهرب، لو لم تأتي (بدور) فسيكون جبنا مني أن أتركها، وأهرب بعد أن شعرت بذلك الرابط الذي يجمعني بها، ولكن ماذا لو لم أرحل!؟ هل استطيع أن أعيش في مجتمع من الذئاب المفترسة، بالتأكيد لا مكان لي هنا، هل أتقدم لخطبتها وأتزوجها، وأنا أعلم أنها ستتحول إلى ذئبة تعدو في البراري في الليالي القمرية، وهل سيقبل بي أهلها ويقيمون الولائم والأفراح، أم أكون أنا وليمتهم التي يفترسونها، ويتلذذون بلحمها بين أنيابهم وبراثنهم … أكاد أجن!
بعد الفجر بنصف ساعة، سمعت تلك الطرقات على الباب، رقص قلبي طربا، لقد وافقت (بدور) على الرحيل معي إذا، التقطت حقيبتي، وأسرعت بنشوة ناحية الباب وفتحته، فوجدت بابا آخر خلفه! لا لم يكن بابا آخر! إنه (عبد الباسط)! ما الذي جاء به الآن يا ترى!؟ لم يمهلني (عبد الباسط) لأفكر وهو يلقي نظرة على الحقيبة التي في يدي وهو يقول بصوته الجهوري:
– العمدة يريدك؟
– الآن.
– لنؤجلها للصباح.
– لا … الآن.
من الواضح ان هناك كارثة على وشك الحدوث، وها هو (عبد الباسط) يأتيني بالبشارة، سألته بحذر:
– وماذا يريد العمدة!؟
– لا أعرف.
وصلت إلى منزل العمدة الذي استقبلني تلك المرة استقبالا فاترا أكد توقعاتي، وطلب مني الجلوس، وجلس هو على المقعد المقابل، وخلفه نصف دستة من الخفر، سألني العمدة وعلى وجهه ابتسامة كريهة:
– كيف الحال؟
– رائع … الحال أروع من الروعة.
اتسعت ابتسامته، قبل أن يسألني بحدة:
– أين ساعتك؟
تحسست رسغي الأيسر بآلية، لم تكن الساعة فيه، يبدو أنني فقدتها في مكان ما، لم ينتظر العمدة إجابتي وهو يردف:
– لا تقلق لقد عثرنا عليها.
ثم التفت إلى أحد الخفراء خلفه، وهو يأمره:
– أعطيها له يا (مخيمر).
اقترب مني (مخيمر) وهو ينظر لي نظرة كراهية غير مبررة، وناول الساعة لي بغلظة بيد مغطاة برباط من الشاش، فأضاف العمدة:
– أعذر (مخيمر) فهو ليس في مزاج جيد … وبخاصة بعد تعرضه لحادثة مؤسفة من أسابيع فقد فيها أصبعين من أصابعه.
تدلى فكي السفلي في رعب، وأنا أوجه ناظري بين يد (مخيمر) المربوطة بالشاش، وعينيه اللتان تحدقان في بكراهية … حاولت الحديث فخرج صوتي ضعيف خائرا، أنا نفسي لم افهم ما حاولت قوله … نهض العمدة واقترب مني، وقد تبدلت ملامحه بملامح غليظة، مقيتة، وهو يسأل بلهجة حادة:
– ألن تسأل أين وجدنا ساعتك؟
مرة أخرى لم ينتظر ردي وهو يردف:
– لقد وجدناها هناك في كهف (أبو الأبيض) عندما كنت تتلصص علينا.
كنت عاجزا عن الكلام أو حتى عن الأتيان بأي رد فعل، كنت أشعر برعب شديد، أعرف الآن شعور الفأر في المصيدة … أشار العمدة إلى خفرائه العمالقة ومعهم (عبد الباسط) فهجموا علي جميعا، وحملوني كدمية صغيرة، حاولت المقاومة، وأصابه بعضهم ببعض الركلات واللكمات القوية، لست متأكدا إذا كان أحدا منهم قد شعر بها من الأساس، في النهاية وجدت نفسي محبوسا في زنزانة بالقبو أسفل منزل العمدة، زنزانة من غرفة واحدة بدون نوافذ، لها باب واحد مدعوم بقضبان من الحديد الصلب.
***
عدد من الليالي لا أكاد أحصيها قضيتها في تلك الزنزانة، دون أن أرى أحدا سوى (عبد الباسط) الذي كان يجلب لي الطعام … في كل مرة كنت استجديه أن يساعدني، وأذكره بذكرياتنا سويا، ثلاثة أسابيع معا في الوحدة الصحية وجها في وجه في غياب المرضى، ولكنه كان ملتزما للصمت كعادته، يضع الطعام وآنية الماء أمام الباب وينصرف … حاولت الهرب بفتح الباب عنوة، أو بالعبث في قفله، أو حتى بحفر نفق في الأرض أو فجوة في الجدران، ولكنها كانت جميعا محاولات بائسة، وغير مجدية.
في ذلك اليوم، كانت الساعة الثالثة عصرا، عرفت الوقت من ساعتي اللعينة التي فضحتني، سمعت صوت خطوات على درج القبو، فنظرت من بين القضبان لأعرف القادم، فرأيتها تهبط الدرجة، فصحت بفرحة:
– (بدور).
أومأت برأسها مشجعة، شعرت بسعادة شديدة لرؤيتها، ثبطها ظهور (عبد الباسط) من خلفها … اقتربت (بدور) من باب الزنزانة وأولجت مفتاحا في قفله الضخم وفتحته، اندفعت إلى خارج الزنزانة وأمسكت بيدها، وأنا أقول:
– الحمد لله أنك بخير … لقد كنت قلقا عليك.
– وأنت أيضا … لماذا لم تهرب كما طلبت منك.
تذكرت وجود (عبد الباسط) فتراجعت خطوة في قلق، فقالت (بدور) مشجعة:
– لا تقلق (عبد الباسط) معنا، وهو يرى أنك إنسان طيب لا تستحق المصير الذي يعد لك.
التفت إلى (عبد الباسط)، ثم صافحته، واحتضنه وأنا أقول له شاكرا:
– شكرا لك ياصاحبي.
لم يبد على (عبد الباسط) انفعالا كعادته، ولكنني شعرت أنه مسرور، هذا العملاق القاسي الملامح يحمل داخله قلبا رقيقا … قاطعت (بدور) تلك الفكرة وهي تقول:
– هيا بسرعة ليس لدينا الكثير من الوقت، المنزل خال، والجماعة في الشونة، وفرصتك الآن للهرب.
– هل ستأتين معي.
– قلت لك لا استطيع.
– إذا سأعود لك يوما.
أطرقت برأسها إلى الأرض وهي تقول:
– سأنتظرك.
خرجنا من المنزل، كان (عبد الباسط) قد جلب حقيبتي من الوحدة الصحية، ووضعها على ظهر الحمار، وساعدني على ركوبه، قبل أن يهمس في أذني:
– أربط الحمار في محطة عم (عفيفي)، ولا تتركها تعود ليلا وحدها.
قالت (بدور) موضحة:
– الليلة هي أولى الليالي القمرية، والناس تربط بهائمها داخل الحظائر حتى لا تتعرض للافتراس …
كانت لحظات الوداع قصيرة، كنت حريصا على أن أهمس لها بتلك الكلمة في أذنها:
– شكرا لك … أحبك!
وكانت هي حريصة على أن تهمس في أذني:
– كن حذرا.
ناولتني في يدي خنجرا حادا، دسسته في ثيابي، قبل أن تردف:
– خذ هذا معك، أتمنى ألا تحتاج لاستخدامه!
***
انطلقت بالحمار في طرقات القرية الخالية، حتى وصلت إلى آخرها، وإلى بداية الطريق الهابط نحو سهل الجبل، كنت أحث الحمار على الأسراع، فساعات قليلة ويحل المساء وتبدء حفلة الذئاب، بعد عشرة دقائق وصلت إلى مفترق الطرق، أمامي طريقين واحدا لليسار وآخر لليمين، حاولت التذكر من إيهما جاء بي (عبد الباسط) إلى القرية، ولكن كلاهما بدا لي متشابها، فاخترت أن أسلك الطريق الأيمن … كان الطريق وعرا وملئ بالصخور والعقبات، ولم يكن معي (عبد الباسط) ليحملني أنا والحمير من فوقها، ولكن الرعب الذي كنت أشعر به مع كل دقيقة تمضي كان كافيا لآن يبعث في عروقي طاقة وحماس يجعلاني قادر على تخطى أي عقبة … مرت ساعة ولم تكن نهاية الطريق قد ظهرت، نظرت إلى الشمس التي كانت متعجلة للرحيل في هذا اليوم أكثر من العادة، فتمتمت بتوتر:
– اللعنة … لماذا لا ينتهي هذا الطريق اللعين!؟
لكزت الحمار في بطنه بكعب حذائي، فانطلق يعدو في الطريق الذي أوجهه إليه، بعد نصف ساعة أخرى انتهى الطريق، ووجدت نفسي عند مفترق الطرق أمام القرية، اللعنة، لقد كنت أسير في دوائر، لقد عدت من حيث بدأت، والكارثة أن الشمس قد غابت تماما، وبدأ القمر يعتلي صفحة السماء.
من قصص خكايا العالم الاخر