مكتبة الأدب العربي و العالمي
القريه_المخيفه الجزء الرابع
لست خبيرا (بيولجيا)، ولكنني لم أر ذئبا بهذا الشكل من قبل، هل هي فصيلة نادرة تعيش في تلك المنطقة المنعزلة، لم يرها العالم من قبل!؟
في تلك الليلة تكررت حفلة الذئاب كالليلة السابقة تماما، لم استطع النوم بالطبع، أشعر برعب أكبر الليلة، خاصة أن كل صوت أسمعه من خارج غرفتي، أصبح يتشكل في خيالي مرتبطا بتلك الصورة المرعبة لذلك الذئب العملاق الذي طاردني قبل ساعات، الصوت مرعبا بحق، ولكن اتحاد الصوت مع الصورة يصنعان معا رعبا هائلا … فجأة انطلق صوت قوي:
– كراااااااك.
تلا ذلك صوت عواء طويل متألم، ضممت قبضتي في ظفر وأنا أقول بصوت عال:
– ها … لقد تحولت الفريسة إلى صياد … لقد وقعت في يدي أيها اللعين.
كنت قد نصبت الفخ الحديدي خارج نافذتي، وها هو الفخ قد أمسك بفريسة من تلك الذئاب الجشعة، علي الآن أن أتحمل ذلك العواء المتألم حتى الصباح، حينها سأقبض على هذا الذئب وأسلمه للعمدة، وأشجع أهل القرية على مواجهة تلك الذئاب وعدم الاستسلام لها بهذه الطريقة.
***
في الصباح، لم أكن قد نمت بعد، وكانت أصوات الذئاب قد توقفت منذ فترة طويلة، وحتى نحيب ذلك الذئب المتألم توقف أيضا، فتحت باب الوحدة الصحية فأضاءت شمس الصباح مدخلها، ومست وجهي نسمة الصباح الباردة، اللطيفة، خطوت إلى خارج الوحدة الصحية، ودرت حولها إلى ذلك المكان الذي نصبت فيه الفخ خارج نافذتي، كنت أسير بخطوات متوجسة، حذرة، خوفا من أن يكون واحد من تلك الذئاب قد بقى في المكان ، ولكنني تنهدت بارتياح عندما لم أجد أيا منها، لقد رحلت جميعها، حتى الفخ نفسه كان خاليا من صيده، من الواضح أن الذئب الذي كان يطبق عليه بالأمس نجح في الهرب منه بوسيلة ما، اقتربت من الفخ لأتفحصه، هنا انتصب شعر رأسي، وشعرت بتدفق الدماء إليها بقوة، حتى أن عيني زاغتا للحظات، لم يكن الفخ خاليا تماما، لقد نجحت أسنان الفخ في اقتطاع جزء من جسد الضحية … أصبعين … أصبعين بشريين!!
انتابني ذعر رهيب عندما عثرت على الأصبعين البشريين في الفخ
لقد نجحت أسنان الفخ في اقتطاع جزء من جسد الضحية … أصبعين … أصبعين بشريين!!
انتابني ذعر رهيب عندما عثرت على الأصبعين البشريين في الفخ، لم أكن قد نمت لثانية واحدة في الليلة السابقة، أضف إلى ذلك تلك المفاجأة الصباحية المروعة، عندها يمكنك أن تتخيل ما يجول بعقل طبيب شاب، مثلي، وجد نفسه في منطقة منعزله تبعد مئات الأميال عن موطنه، يتعرض لضغوط عصبية من ذئاب تحاصره في كل ليلة تبغى الوصول إليه وافتراسه، وظواهر غير طبيعية ووقائع لا يمكن تصديقها، وأخيرا يتسبب بحماقته في قطع أصبعيين بشريين بالتأكيد لرجل من أهل القرية، لن يكون راضيا بحال عما أصابه وسيحاول الثأر … يمكنني أن أخبرك بنفسي … كنت أفكر في تلك اللحظة في الهرب من تلك القرية اللعينة، والعودة إلى بيتي وقريتي، ونسيان ذكريات الليلتين الفائتتين، من يصدق أن هذا كله حدث في ليلتين فقط!
عدت لداخل الوحدة الصحية، كنت أفكر في الخطوة التالية التي علي اتخاذها … اعتدت طوال حياتي أن أكون إنسانا مسؤولاً ، ورغم أن الهرب يبدو خيارا مغريا، إلا أنني سأبقى وأواجه، وأتحمل مسؤولية تصرفاتي، أجل سأتوجه الآن إلى بيت العمدة وأعترف له بما حصل بشجاعة … فجأة، قاطع أفكاري صهيل حصان، وصوت عجلات عربة تجرها الخيل تتوقف أمام الوحدة الصحية، أعرف شخصا واحدا في هذه القرية يمتلك عربة كتلك، إنه العمدة.
– السلام عليكم … كيف الحال يا (دكتور).
قالها العمدة وهو يدلف من باب الوحدة الصحية، ومن خلفه أثنين من الخفراء يحملان بنادق عتيقة، من مخلفات الحرب العالمية … قلت بصوت مبحوح:
– وعليكم السلام … خير مجيئك ياسيدي، لو لم تفعل لجئتك بنفسي.
نظر في وجهي باستغراب، وهو يقول:
– ما بك!؟.. تبدو كأنك لم تنم بالأمس، أو كأنك تحمل هموم الدنيا على ظهرك.
– كلاهما.
دعوته إلى الداخل، ثم بدأت أحكي له عما حدث، دون أن أغفل أي تفاصيل، حتى انتهيت بالأصبعين البشريين الذي عثرت عليهما هذا الصباح … استمع لي بوجه لا يحمل أي انفعالات، وعندما انتهيت قال بلهجة جادة:
– أين تلك الأصابع المقطوعة!؟
– ما زالت في الفخ.
نهض من مقعده، وتوجه ناحية الباب، وهو يقول:
– إذا أصحبني لأراها.
تقدمت العمدة والخفيرين إلى خارج الوحدة، قدتهم إلى المكان الذي نصبت فيه الفخ، وأشرت إليه قائلا:
– هذا هو؟
توجه العمدة إلى الفخ، وأقعى على ركبتيه يتفحصه، قبل أن يقول:
– لا يوجد أي أصابع بشرية هنا.
انتابتني دهشة كبيرة، وأنا اقترب من الفخ بدوري، في نفس اللحظة التي أخرج فيها العمدة شيئا منه وهو يشير لي به قائلا:
– إنهما مخلبي ذئب.
نظرت إلى ذلك الشئ الأغبر اللون الذي يرفعه العمدة، والذي تخثرت بعض قطرات من الدماء على شعيرات فرائه الرمادية، كانا بالفعل جزئين صغيرين من مخلبي ذئب أو كلب، اقتطعتهما شفرة الفخ الحادة … عجزت عن الكلام للحظات، فقال العمدة بلهجة مشفقة:
– هل هذا ما عثرت عليه داخل الفخ؟
– لا … أقسم لك، لقد كانا أصبعين بشرين، أنا طبيب ولا أخطئ في هذه الأمور.
ألقى العمدة المخلبين إلى أحد الخفراء، وطلب من الثاني أن يحمل الفخ، وهو يقول آمرا:
– تخلصا من هذه الأشياء.
ثم عاد لي بلهجة متعاطفة وهو يصحبني إلى داخل الوحدة، مربتا على كتفي:
– من الواضح أنك أرهقت نفسك كثيرا في الأيام الماضية … هذه الأشياء تحدث، عليك أن ترتاح وتنال قسطا مناسبا من النوم، حتى تستعيد صفاء ذهنك.
لم استطع أن أرد هذه المرة أيضا، ولكنني أومات برأسي، وأنا أسير معه مستسلما، وهو يردف قائلا:
– نصيحة أخيرة يابني، لا تتعرض لتلك الذئاب، فأهل القرية يتطيرون من ذلك، فهم يعتبرون قتلها يجلب النحس، كن حذرا، والتزم غرفتك في الأوقات التي تخرج فيها الذئاب، وهي بدورها ستعتاد وجودك، ولن تترصدك أو تهاجمك، هكذا نفعل جميعا.
***
قضيت النهار بطوله أحاول إقناع نفسي بأنني لم أر تلك الأصابع البشرية في الفخ، وإنها كانت مجرد تهيؤات بسبب التوتر والإرهاق لعدم النوم، كان الأمر صعبا للغاية، وفي النهاية قررت أن أتناسى ماحدث واعتبره مجرد واقعة غير قابلة للتفسير، وهي أشياء أصبحت تتكرر كثيرا في الأيام الأخيرة … من حسن الحظ لم تظهر الذئاب في تلك الليلة، ولا في الليالي التالية لها، حتى أن ثلاثة أسابيع مضت دون أن أسمع عواء ذئبا واحدا، سألت (العم شقص) عن ذلك، فكانت إجابته مقتضبة كالعادة:
– الذئاب لا تخرج في كل ليلة.
كان العمل بالوحدة الصحية هادئا للغاية، بل ومثيرا للملل … ورغم أن (العم شقص) جلب الأدوية والأدوات المطلوبة في الميعاد، وكذا وزارة الصحة أرسلت تموينها الشهري بعد ذلك بأيام، وصارت الوحدة جاهزة مائة في المائة للقيام بدورها، إلا أن هناك شيئا واحدا ناقص … المرضى!.. كان (العم شقص) يمر علي في الصباح الباكر فيفتح أبواب الوحدة وينظفها، ويوقظني من النوم، وننتظر أنا وهو أن يظهر المرضى، فلا يظهرون حتى المساء، عندها يغلق (العم شقص) الوحدة، ويرحل دون أن ينسى أن يحذرني من الخروج ليلا كعادته … أحصيت المرضى الذين زاروا الوحدة بعد ثلاثة أسابيع من العمل، فلم يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة، سألت (العم شقص) عن ذلك فأجاب ببساطة:
– أهل القرية لا يمرضون إلا قليلا.
أنا شخصيا لاحظت أن المستوى الصحي لأهل قرية (كوم الأبيض) مرتفع للغاية، فنموذج (العم شقص) العملاق، صحيح البدن، فائق العافية، هو النموذج المتكرر بين رجال القرية، بل وبين نساءها أيضا، يمكنك أن تلاحظ ذلك بسهولة إذا سرت لدقائق في شوارع القرية وتأملت أهلها … قد يكون ذلك التفسير مريح أكثر لكبريائي المهني، من التفسير الآخر بأن أهل القرية، لا يثقون في هذا الشاب النحيل، الفاشل، وفي كونه طبيبا قادرا على معالجتهم من الأمراض.
– المولد.
قالها (العم شقص) ذلك الصباح، فأجبته بدهشة:
– أي مولد؟
– مولد (أبو الأبيض) … أهل القرية كلهم سيذهبون إلى المولد، وستكون هناك أشياء رائعة.
لست غريبا على الموالد، فقد كنت أعشقها في صغري، وأتحمس لها، وأسافر للقرى المجاورة لحضورها، الألعاب، المأكولات، والمشروبات، والحلوى، المداحين، وجلسات الذكر، وتجمعات الشباب المتحمس الباحث عن التسلية، إنها الكرنفالات على الطريقة البلدية … تذكرت شيئا فسألته بدهشة:
– وهل سيخرج أهل القرية ليلا من أجل المولد؟
فأجاب باستنكار شديد:
– ومن تحدث عن الخروج ليلا!؟
– الموالد تكون كذلك في العادة!
– مولد (أبو الأبيض) ينطلق مع الفجر ويتوقف قبل غروب الشمس.
***
يحكون عن (أبو الأبيض) أنه كان شابا، شجاعا، متحمسا من قرى الجنوب، وبسبب حماسته تلك وجد نفسه في مشاجرة مع أحد الحمقى ممن يظنون أنفسهم فوق البشر لما لهم من ثروة، وسطوة، وعائلة، وهذا يسمح لهم بإهانة الآخريين والتحقير من شأنهم … ينتهي هذا الشجار بمقتل هذا الأحمق، وفرار (أبو الأبيض) وفي رقبته ثأر ودماء، ومطاردا بطغمة من الأشرار ممن يطمعون بمكافأة كبيرة من أهل القتيل … يستمر (أبو الأبيض) لسنوات طويلة هاربا، وفي كل مرة يظن أنه قد أصبح بعيدا عن براثن من بطالبون برأسه، ولكنه يفاجئ بهم قد وصلوا إلى مكانه، فيعاود الهرب من جديد، وهكذا حتى وصل إلى تلك المنطقة البكر، المنعزلة، التي تحيطها الجبال من كل جانب، وهناك وجد ذلك البناء الغريب المشقوق في صدر الجبل، فأقام فيه يترقب وصول مطارديه، لا يعرف ماذا سيفعل، ولا إلى أين سيتوجه بعد ذلك، ولكن مطارديه لم يصلوا في تلك الليلة، ووصل بدلا منهم قطيع من الذئاب الضخمة، لم يعجبها هذا القادم الجديد الذي انتهك أرضها، وقررت أن تعاقبه على هذا الفعل بافتراسه.
من قصص حكايا العالم الاخر