مكتبة الأدب العربي و العالمي
حكاية مال البخيل يأكله المرتاح الجزء الثاني
في الصّباح نهض عبد الله باكرا ،وخرج إلى الزّقاق يبحث عن عمل ،ودار في كل مكان ،حتى ناداه تاجر ليصلح له سور داره ،فشمّر الفتى عن ذراعه واشتغل بكل حماس، وهو يفكّر في خديجة التي تركها دون طعام . ولمّا إنتهى شكره الرّجل على عمله المتقن ،وأعطاه أجرته ،وطلب منه أن يأتيه غدا لدهن الدّار. ذهب الفتى للسّوق واشترى كيلو كسكسي مع ما يلزم من الخضار والزّيت ،ورجع لبيته ،فقامت خديجة من حينها، وأخرجت القدر من الدّهليز ،وطلبت فحما ووقيدا من عند جارتها ،وبدأت تطبخ مثل النّساء،،فمنذ زمن لم تشعل الكانون ،ولم تشمّ رائحة الطعام في دارها ،ولمّا نضج الكسكسي، أكلت هي وزوجها حتى شبعا ،وحمدا الله على النعمة ،قال عبد الله : ليس لنا شيئ لنسهر، لكن غدا سأشترى شايا وسكّرا ،وربّما لوزا ،لكنّي أشعر الآن برغبة في النّوم ،فأمامي شغل كثير غدا .
في الفجر نهض عبد الله على صياح الدّيكة ،وغسل وجهه ،ثم خرج وغاب طول النهار ،وجاعت المرأة ،فأكلت ما بقي في القدر، ثم نظّفت البيت ،وفي المساء سمعت صوت عبد الله ،ففرحت كثيرا ،وجرت لتفتح الباب ،فرأت قفتين عامرتين ،أدخلتهما إلى السّقيفة،وكان الفتى ينظر بسعادة لإمرأته وهي تفتح القراطيس ،فقال لها : صاحب الدّار التي دهنتها تاجر ثري ،وفي نصف النهار أعطاني صحفة فيها لوبياء وفخذ دجاج ،فوضعتها في ركن ،ولمّا سألني: لماذا لم آكل ؟ أجبته: لقد أخفيتها لإمرأتي !!! فقال: بارك الله فيك على معروفك!!! ولمّا أنهيت عملي ،قال الرّجل: هذه أجرتك ،ومعها قفّة ،والله لن تعودنّ لإمرأتك إلا بدجاجة لطبخ اللّوبياء ،و بالدّقيق لخبز الشّعير، وكلّ ما يلزم من طماطم وفلفل حار !!!وحين كنت في الطريق اشتريت الشّاي ،والسّكر واللوز ،والفحم ،وفضل الكثير من النّقود في جيبي .
بعد قليل فاحت رائحة الدّجاج والتّوابل في الدّار،ثم دارت أكواب الشّاي واللّوز المقلي،وبدأت الجارات يغرن من خديجة بعدما كنّ يشفقن عليها ،وصار عبد الله لا يعود إلا وهو يحمل شيئا ،وذات يوم أتاها بقطعة قماش وطلب منها أن تخيط ثوبا جديدا بدل الذي عليها ،وبعد مدّة أتاها بحذاء ،وبدأت حال خديجة يتحسن وصح بدنها ،وزاد جمالها ،وبعد أن كان زوجها يبيت في الشّارع أصبحت تناديه سي عبد الله .وأحد الليالي سمعها جارها منصور ،وكان رجلا متكبّرا ،فقال لإمرأته ،هل رأيت خديجة إبنة الأكابر يتزوّجها متشردّ ؟ والآن صار سيّدا في هذا الزّقاق !!! فردّت عليه: أليس هو أحسن من الذي كان يجوّعها ؟ الرّجال بشهامتها يا سي منصور ،وإلا أنا مخطئة ؟ قال لها : لمّا تتحسّن حال خديجة ،فلن تعود بحاجة إلى ذلك الجائع، فكلّ واحد يرجع لأصله ،هكذا جرت العادة .
لكن ما يجهله منصور أنّ خديجة تزوّجت صغيرة ،ولم تعرف ما هو الحبّ حتى رأت عبد الله ،وفي البداية لم تكن تعرفه ، وظنت أنّه كغيره من فقراء العمال الذي يعيش ليأكل وينام ،لكن رأت بين أمتعته كتبا يقرأ فيها كلّ يوم ولمّا فتحتها ،تعجّبت، فلقد كانت في الكيمياء ،و رفض أن يجيبها لماذا يحتفظ بتلك الكتب !!! ولمّا يجلس معها ويتحدّثان كان يدهشها بعلمه،وعرفت أنّ وراءه سرّا يخفيه عنها .وكانت تلك المرأة حاذقة ،كلما يأتيها زوجها بشيئ كانت تأخذ حاجتها ،وتدسّ الباقي لوقت الشدة أو مجيئ ضيف على غفلة ومع الوقت صارت لها عولة مثل بقية النساء سميد وتمر وجرّة من الزيت وأخرى من القديد .أحد الأيّام كان الفتى ينقل كيسا ثقيلا من الحجارة فسقط أحدها على ساقه وأصابها بجرح كبير ،فبقي في الدار لا يستطيع الحراك ،وبعد وقت قصير نفذ ما لديه من مال فبكى وقال لخديجة ستجوعين الآن ،وأنا مريض ،لكن المرأة الحاذقة أجابته لا تشغل بالك فعندي في الدهليز الخير الوفير ،كان منصور يعلم بحال جاره ،ورغم ذلك لم يزره أو يساعده بشيئ ،كان يتمنّى أن يرجع للشّارع ويبتعد عنه ،لكن عبد الله صبر على ما حلّ به،وبقي يأكل أسبوعا مع إمرأته من العولة ،حتى كاد ينفذ كل شيئ …
…
يتبع الحلقة 3
من قصص حكايا العالم. الاخر