مقالات
قراءة في رواية “نبضات محرمة” للكاتبة رولا غانم الكاتب والناقد/ ناهـض زقـوت
كانت الكتابة الأدبية في الزمن الماضي كتابة ذكورية إلا ما ندر من الكتابة النسوية، ولكن مع التقدم العلمي والتكنولوجي، دخلت المرأة بقوة مجال الكتابة منذ القرن التاسع عشر للميلاد، وكان هذا المجال مرتبطاً بالوعي النسائي التحرري، ولهذا ازدهرت هذه الكتابة في بلدان عربية مثل مصر وبلاد الشام. وكانت سرود الرواية النسائية من حيث موضوعاتها تصطبغ في كل مرحلة تاريخية بطابع الانتماء للعصر أو الواقع بكل اشتراطاته الضاغطة، فقد انخرطت في سنواتها الأولى في موضوعات النضال ضد الاستعمار الأوروبي ومن أجل التحرر الوطني، والدفاع عن حقوق المرأة في مجتمع تغلب عليه تقاليد النظام الأبوي وأعرافه الصارمة، ومازالت هذه الموضوعات مهيمنة على الكتابة النسوية مع بعض الفروقات حسب الواقع الاجتماعي.
ولم تكن الكتابة النسوية الفلسطينية بعيدة عن واقعها، فقد كانت البدايات الأولى للكتابة النسوية منذ أوائل القرن العشرين، وعانت من فترات المد والجزر، ونكبة الشعب الفلسطيني عام 1948م، وقيود المجتمع العربي الصارمة تجاه المرأة. وكانت الأراضي الفلسطينية تعيش نفس الحالة من القيود، رغم المحاولات النسوية كتابة رواية وقصيدة شعرية وقصة قصيرة، ولكن بأعداد محدودة وليس بعدد الرجال. وبعد قيام السلطة الفلسطينية انفتح المجال للمرأة واسعاً فأصبح لدينا أعداد من الكاتبات النسوية يكتبن في مجالات الرواية والقصة القصيرة والقصيدة، وظهر جيل جديد من المرأة الكاتبة التي حققت مكانتها في المشهد الثقافي الفلسطيني، ومن هذا الجيل الكاتبة الدكتورة رولا غانم.
رولا خالد غانم كاتبة روائية ومحاضرة جامعية، من مواليد مدينة طولكرم بفلسطين، حصلت على بكالوريوس أدب عربي من جامعة النجاح الوطنية، وماجستير أدب عباسي من جامعة النجاح الوطنية، كما حصلت على دكتوراه أدب ونقد من جمهورية مصر العربية. بدأت مسيرتها المهنية بالتدريس في جامعة القدس المفتوحة فرع طولكرم، وتنقلت للتدريس في عدة جامعات بفلسطين، عضو الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، ومدير المكتب الحركي لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين في مدينة طولكرم.
قامت بعدة مبادرات إنسانية وخيرية، وعضو في عدة جمعيات اجتماعية، ومؤسس فريق (صناع الحياة الفلسطيني) وهو فريق تطوعي يضم الكل الفلسطيني وهدفه مساعدة المحتاجين وزرع القيم الأخلاقية في الشباب وبث روح المبادرة والتطوع.
فازت بجائرة المرأة المبدعة التي تنظمها جمعية المرأة المبدعة في مدينة غزة لعام 2021، كما حصلت على تكريم من قبل جمعية المترجمين العرب العالمية، مع حمل لقب (سفيرة المجد)، وعلى تكريم بوسام ذهبي عن روايتها “لا يهزمني سواي” خلال حفل توقيع لها في اسطنبول، عن طريق شبكة الرائدات العربيات والتي تمثلها في فلسطين.
تكتب الرواية والمقالات الأدبية والسياسية، صدر لها رواية (الخط الأخضر) عن دار الجندي للنشر، القدس 2016، ورواية (مشاعر خارجة عن القانون) عن دار كل شيء، حيفا 2016، ورواية (لا يهزمني سواي) عن دار كل شيء، حيفا 2019، والرواية الرابعة التي نحتفي بها اليوم (نبضات محرمة) عن دار ببلومانيا للنشر، القاهرة 2022.
تتشكل شخصية الروائي فيما يطرحه من قضايا واقعية، وكاتبتنا في أعمالها الروائية نجدها تخط لنفسها طريقاً متجاوزة فيه الآخرين من حيث رؤيتها للعالم، حيث تركز في أعمالها الروائية على قضايا المرأة واضطهاد المجتمع الشرقي لحقوقها، ولم تبتعد كثيراً في روايتها الرابعة عن هذه الفكرة، فتأخذنا الكاتبة في رواية (نبضات محرمة) إلى عالم المرأة في المجتمع الشرقي، هذا العالم الذي كتب عنه عشرات الروايات، ولكن يبقى تمايز الرؤية وتباينها بين كل من كتب عن المرأة وظلم المجتمع لها، فكل كاتبة لها رؤيتها في بناء الأحداث، والزمان والمكان، وتكوين الشخصيات، وبلورة الرسالة أو رؤيتها للعالم.
رواية “نبضات محرمة”، عنوان يتوافق مع السياق السردي، فالنبضات تعبير يشتمل على المرأة والرجل، فالحياة ما هي إلا نبضة قلب. و”المحرمة” هنا لا تعني التحريم الشرعي، بل تعني تحريم الحق في الحياة. في الواقع الفلسطيني الخاضع للاحتلال، الكل يعاني على المستويين السياسي المتمثل في ممارسات الاحتلال الاسرائيلي، والمستوى الاجتماعي القائم على ترسيخ القيم الاجتماعية التي تعلي من شأن الذكر على حساب الأنثى.
اعتمد بناء الرواية على عدة تقنيات سردية في بناء الأحداث وتحديد مسار الشخصيات، فكان أسلوب الفلاش باك (الاسترجاع)، وتداعي الذاكرة، وتسارع الزمن، والتوثيق، وضميري الأنا والغائب، والرسائل، ووسائل التواصل الاجتماعي، والحوار الأقرب إلى الحوار السينمائي، والفصول كانت بمثابة مشاهد سينمائية. هذه التقنيات تؤكد على حداثية الرواية، فكانت هذه التقنيات الفنية وسيلة الكاتبة في استدعاء الأحداث، وتشويق القارئ لمواصلة القراءة.
ينطلق مكان سرد الأحداث من طولكرم إلى دير الغصون إلى أم الزينات، تلك الأماكن التي تمثل حركة الزمن، تلك الحركة التي سار الفلسطيني في دروبها، فيعود الزمن بالذاكرة إلى نكبة فلسطين عام 1948، ونكستها عام 1967، إلى عملية ميونخ في عام 1972، وصولاً إلى الانتفاضة الأولى عام 1987، وقيام السلطة الفلسطينية، والانتفاضة الثانية عام 2000. أما بداية الزمن السردي في الرواية قبل الاستغراق في الذاكرة، يبدأ خلال فترة الحجر الصحي بسبب جائحة كورونا. حيث تروي الجدة (راضية) حكايتها على أحفادها: تقول الساردة: “أخذت راضية التي غزا الشيب شعرها، وحفر الزمن على جلدها خطوطاً لكل منها حكاية، تستعد لأن تقص على أحفادها الذين لا يملون سماع قصصها رواية حياتها، الحفيد مهند ذو العينين الواسعتين والشعر المنسدل على كتفيه، كان أكثر الأحفاد إصغاء لها، وإن ألحت عليها أسماء ببدء الحكاية”.
نحن أمام رواية واقعية رومانسية اجتماعية، لا نستطيع أن نفرق بين ما هو واقعي وما هو خيالي، فثمة حبكة روائية في غاية التماسك والانسجام، معتمدة على صياغة لغوية تنسجم مع وظيفتها الدلالية المرتبطة مع الحدث السردي المترابط حتى نهاية الرواية.
إن الوقوف على اللغة هو بمثابة الوقوف على العمل الإبداعي ككل. وإذا كانت الرواية عالم متحرك في الزمن والمكان، بفعل قوى فاعلة، تختلف في توجهاتها وأفكارها وقناعاتها، فإن اللغة بدورها، والتي تؤطر هذا العالم، لا بد أن تتوازى في ديناميتها مع هذا الاختلاف، حيث أن طغيان اللغة الواحدة على النص الأدبي هو بمثابة قتل له، وسلب لممكنات هذا النص من التنوع والاختلاف الذي يبنى عليه العالم الإنساني.
لقد أدركت الكاتبة قوة هذه الثيمة الابداعية، فاتخذت من اللغة الشاعرية التي حملتها الرسائل على مساحة واسعة في السرد أداة تعبير عن مكنونات النفس البشرية، إلى جانب ذلك استخدمت اللغة البسيطة السهلة المنفتحة على لغة الحياة اليومية كلغة سردية للأحداث والشخصيات.
تقول الكاتبة في نهاية الرواية على لسان الحفيد أدهم بعد أن استمع إلى حكاية جدته، فقد قرر أدهم أن يكتب تلك الحكاية عن حياة جدته حتى تكون عبرة لكل امرأة ظلمت في حياتها، ولكل أسرة حالت دون سعادة أبنائها.
هذه العبارة لخصت مضمون الرواية، والرسالة التي حاولت الكاتبة أن توصلها للمجتمع من خلال قارئ الرواية، فالجيل الجديد أدرك معاناة الآباء والأجداد من هيمنة القيم الاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك، تلك القيم التي خلقت مجتمعاً مشوهاً يفرق بين الذكر والأنثى، فسعى إلى حمل الرسالة ونشرها في المجتمع.
تسلط الرواية الضوء على المعاناة بشقيها السياسي والاجتماعي كما ذكرنا، سواء عند الرجل أو المرأة. يتمثل البعد السياسي في ممارسات الاحتلال الاسرائيلي القمعية ضد الشعب الفلسطيني المتواصلة منذ النكبة إلى زمن الرواية، ولكن الفلسطيني لم يستسلم بل قاوم على مدار سنوات هذا الاحتلال، وما زال يسعى لتحقيق حلم العودة إلى الديار التي شرد منها.
أما في الجانب الاجتماعي ثمة العديد من القضايا والموضوعات التي أثارتها كاتبة الرواية وتحتاج الى تسليط الضوء عليها وإثارتها، مثل: الآراء المتباينة حول فيروس كورونا وانعكاسها على الواقع، والمعتقدات الشعبية وعلاقتها بإنجاب الصبيان، والحجاب لمنع الاجهاض، ورؤية المجتمع للبنت بأنها تجلب الفقر، ومعايرة المرأة التي لا تنجب الصبيان، وزواج الأرملة أو المطلقة وسترها هو واجب أخلاقي، ودلالات التفريق بين الولد والبنت، والآراء المتباينة حول العمل في المؤسسات الاسرائيلية زمن الانتفاضة.
وقد اندمجت هذه القضايا في السياق السردي المرتبط بشخصيات الرواية، فنحن أمام نماذج للمرأة ليست بعيدة عن الواقع، وجميعها تعاني من أزمات نفسية. فنجد (راضية) صاحبة الحكايات التي تسرق النوم من العيون، المرأة المستسلمة والخاضعة لشروط حياتها، والتي ظلمت من زوجها أسامة كثيراً، وبخلاف المعاملة القاسية والاهمال لها، فقد حرمها من مصرف البيت مما دفعها للعمل في حياكة الملابس حتى تؤمن معيشة أبنائها، إلى جانب معرفتها بأنه لا يحبها بل يحب (أمينة) التي لم يستطع أن يتزوجها بسبب رفض أمه لها، وأجبرته على الزواج من راضية. تواجهه معاملة قاسية بشكل لا يطاق من حماتها تبرز فيها العلاقة بين الكنة والحماة، حتى وصل بها الشعور أنها أصبحت جارية لا زوجة. ولكنها ربت أبناءها تربية صالحة (سهير، وعبد القادر، وكمال، ورشيد)، وزرعت فيهم حب الوطن، مما جعلهم يشاركون في فعاليات الانتفاضة. ترفض العيش في العمارة السكنية التي بناها أبنائها وتتمسك بالعيش في البيت القديم دلالة على تمسكها بالماضي المليء بالحكايات والمحفز للصمود.
ونجد (وهيبة) ذات اللسان السليط، امرأة متسلطة متجبرة، وهي حماة راضية، لا تنفك عن توبيخ زوجة ابنها ومعاملتها بكل قسوة، كأنها تعكس أزمتها النفسية على الاخرين، فهي قد لاقت الاهمال من زوجها، فكانت امرأة عاملة تكد وتتعب من أجل تربية أبنائها بعد وفاة زوجها، وتعاني من أزمة نفسية بسبب هجرتها من قريتها أم الزينات، التي لا تنفك تطالب بالعودة إليها، وكذلك وفاة زوجها وتركها ترعى الاولاد لوحدها، مما ينعكس على سلوكها وتصرفاتها، ويجعلها دائماً في حالة عصبية، وحينما تتضايق من شيء أو من ردة فعل تدعي المرض لكي تجلب تعاطف الآخرين معها، فهي لا تريد من أحد أن يجادها.
و(الهام) المرأة المتمرة على الواقع، أخت أسامة، تواجه التسلط من والدتها وهيبة، والتفريق بينها وبين أخيها، فهذا أسامة مسموح له أن يرفع صوت الراديو أما هي فممنوع عليها، وكذلك الرجل مسموح له التدخين أم المرأة فلا، كما تتحكم أمها في قرار زواجها، لهذا رفضت الزواج في بداية حياتها نتيجة ما تراه في الحياة الزوجية من ظلم واهمال، ولكنها بعد أن كبرت في السن وشعورها بالوحدة، أصبحت تناجي فارس أحلامها على سطح المنزل وتضع لهذا الفارس مواصفات خاصة.
و(أمينة) المرأة الساقطة التي تخون زوجها مع حبها القديم. مسلوبة الارادة والاختيار، تزوجت من شخص لا ترغب فيه، وتتمرد على واقعها من خلال التواصل مع أسامة، وصل إلى حد الخيانة الزوجية. ورغم هذا لم نلمس أية ادانة من الساردة للسلوك غير الأخلاقي بين أسامة وأمينة، كأنها تقول ما يحدث بينها ليس من صنع أيديهما، بل هو نتيجة ظلم المجتمع لحبهما. تقول الساردة: “وحده الحب قادر على كنس ركام الأحزان من دروب حياة كل إنسان”.
رغم قسوة المرأة على نفسها أو على الآخرين، نجدها تحن إلى الوطن المسلوب، وتتمنى العودة أو الدفن في ترابه، وتتمسك بالرموز والشعارات التي تذكرها بالوطن، وتؤمن بأن العمليات الفدائية هي التي ستحرر الوطن. فنجد وهيبة تسمي حفيدها عبد القادر على اسم القائد الشهيد عبد القادر الحسيني ليكون مثله بطلاً، والبطولة هنا من أجل تحرير الوطن.
في المقابل نجد شخصيات الرجال الذين لا يقيمون وزنا للمرأة أو تحمل المسؤولية، فهذا (مسعود) يترك زوجته الحامل ويهاجر إلى الكويت. و(أسامة) زوج راضية يعيش حياة حالمة يهرب فيها من أسرته، شخصية مهزوزة مسلوبة الإرادة، لا يستطيع أن يرسم طريقه ويحدد مستقبله، فهو خاضع لشروط أمه، لذا أهمل بيته، لشعوره أنه أجبر على فتح هذا البيت ظلماً بزواجه من راضية التي اختارتها أمه له بعد أن رفصت أمينة حبيبته والتي يتمنى الارتباط بها، فتمرد على واقعه من خلال التواصل مع حبيبته أمينة، فهي يجد نفسه التي يفتقدها في بيته عند أمينة، لهذا تمسك بها حتى أخر العمر.
خلقت الكاتبة نموذجاً لما يسمى رواية العائلة، وتواصل الأجيال، هذا النموذج يتشكل من الأجداد، إلى الآباء إلى الأبناء الى الأحفاد. لقد كان الأبناء أقل ضغطاً من قيود المجتمع من جيل الآباء، ولديهم امكانيات تكنولوجية مغايرة للجيل السابق (مواقع التواصل الاجتماعي، والانترنت). فنجد (سهير) تتعلم في الجامعة، وترتبط بما يوافق هواها. أما (عبد القادر) و(كمال) فقد تركا المدرسة وافتتحا ورشة تصليح سيارات انعشت حياتهما المادية، ولكن بعد السلطة يواجه عبد القادر قيمة اجتماعية جديدة هي قيمة الفوارق الطبقية، دلالة على تغير القيم الاجتماعية من جيل إلى آخر. فلم يستطع أن يتزوج من (وجدان) ابنة العائلة الغنية التي أبوها لواء في السلطة، للفارق الطبقي والاجتماعي بينها، وبعد زواج كليهما، بقي التواصل بينهما، فأعاد عبد القادر سيرة أبيه أسامة مع أمينة نتيجة ظلم المجتمع وعاداته. أما كمال فقد أحب المطلقة (سجى) ولديها ابنتان، في البداية رفضت راضية هذا الزواج لأنه غير متكافئ هو أعزب وهي مطلقة أكبر منه في السن، إلا أنها أمام اصراره على الارتباط بها وافقت وتزوجها. وابنها رشيد تزوج من ابنة الجيران.
وأنجب كل منهم أبناء وبنات أحفاداً لراضية، هؤلاء هم مستقبل المجتمع نحو التغيير، بعد أن أدركوا القيم الاجتماعية البالية التي يقوم عليها المجتمع حينما استمعوا الى حكاية راضية.
لقد ابدعت الكاتبة بأسلوبها المتحيز والمناصر للمرأة في الكشف عن مواطن الخلل في المجتمع الذي يساهم في اضطهاد المرأة، ولكن ما ذكرته هو نموذج للمجتمع الشرقي وليس للمجتمع الفلسطيني وحسب، إلا فيما يتعلق في البعد السياسي، لهذا أي قارئ من دولة عربية حين يقرأ الرواية يجد نفسه فيها. وهذا ما يؤكد على عبقرية الرواية في تجاوزها للحدود الجغرافية.