الرئيسيةمقالاتمنظمة همسة سماء
قراءة نقدية في مقال الدكتور محمد خليل رضا حول بند «حلّ جمعية رسالات»
بقلم: الدكتورة فاطمة أبوواصل إغبارية/ كاتبة وباحثة في الفكر واللغة والهوية
تمهيد
حين يكتب الدكتور محمد خليل رضا، يكتب بعقلٍ علميٍّ نابضٍ بالحسّ الإنساني وبقلبٍ مشبعٍ بالضمير والوعي المهني، وهذا ما لمسته بوضوح في مقاله المطوّل حول جلسة مجلس الوزراء وبند ‘حلّ جمعية رسالات’. لقد كان نصّه أقرب إلى مرافعة فكرية تجمع بين الطبّ والقانون والأخلاق، وهو نصّ غنيّ بالصور والمجازات التي تُبرز إنسانيته وعمقه في النظر إلى القضايا العامّة من زاوية علمية وضميرية في آنٍ معًا.
غير أنّ التحليل، مهما بلغ من الدقّة والجمال، يبقى قابلاً للقراءة النقدية، فالنقد ليس تقويضًا للنص، بل محاورة له في ضوء الفكر والمنهج. ومن هذا المنطلق أقدّم هذه القراءة التحليلية لمقال الدكتور رضا، لا للردّ عليه بل لتوسيع أفق النقاش، وفتح نوافذ أخرى على الفكرة نفسها.
أولًا: بين اللغة العاطفية والمنهج القانوني
في مقاله، استخدم الدكتور رضا لغة مشبعة بالوجدان والمجاز العلمي — من الأوكسجين إلى الشرايين والضمير — ليؤكّد أن العدل هو شريان الدولة. لكنّ هذه اللغة، وإن كانت جمالية، قد تُضعف أحيانًا من صرامة التحليل القانوني الذي يتطلّب برودة في الطرح وتجرّدًا في الموازنة.
النصّ هنا يتحرّك بين خطاب العالم وخطاب الشاعر، بين تقرير المختبر ومرافعة الضمير. وهو تداخل جميل في الشكل، لكنه يجعل القارئ بين انبهارٍ بلاغي واحتياجٍ إلى تركيز قانوني مباشر. كان يمكن للمقال أن يكتسب قوة أكبر لو فُصلت البلاغة الرمزية عن البنية القانونية، بحيث يبقى التأثير العاطفي إطارًا لا محورًا.
ثانيًا: القضيّة بين المبدأ والواقعة
أجاد الدكتور رضا في التأكيد على أن حلّ الجمعيات يجب أن يكون استثناءً لا قاعدة، وأن الأصل في الدساتير هو حرية التنظيم لا التضييق. غير أنّ مقاله ركّز أكثر على المبدأ القانوني العام، وأقل على الواقعة اللبنانية المحدّدة، أي السياق السياسي والقانوني الخاص بجمعية ‘رسالات’.
إنّ النقد هنا لا ينتقص من المبدأ، بل يدعو إلى توسيع التحليل باتجاه دراسة الحالة اللبنانية في ضوء العلاقة بين الجمعيات المدنية والسلطة التنفيذية. فالمجتمع اللبناني يعيش تراكبًا بين الدين والسياسة، والقرار الإداري لا ينفصل عن توازنات دقيقة. ولو تضمّن المقال تفكيكًا لتلك التوازنات وقراءة لتاريخ علاقة الدولة بالجمعيات الثقافية والإعلامية، لكان النصّ وثيقة تحليلية مضاعفة القيمة.
ثالثًا: بين ضمير الطبيب وضمير الدولة
يُحسَب للدكتور رضا هذا المزج المثير بين الطبّ الشرعي والقانون العام. فهو يستعير أدوات التشريح ليحلّل النصّ السياسي كما لو كان جسدًا يحتاج إلى فحص دقيق قبل إصدار الحكم. وهذه استعارة فكرية نادرة في الكتابة السياسية، لكنها تفتح سؤالًا فلسفيًا: هل يمكن أن تُدار الدولة بذات أدوات الطبيب؟
الطبّ يبحث عن العلّة في الجسد، أمّا الدولة فتبحث عن التوازن في المصالح. في الجسد، الحكم قطعيّ: إمّا حياة أو موت. أما في السياسة، فالمجال رماديّ بين الصواب والخطأ. لذا، لا يمكن نقل منطق الاستئصال أو التحليل السريري إلى الفعل السياسي، لأنّ القانون العام ليس مختبرًا، بل ساحة متشابكة من القيم والتأويلات. هذا البعد الفلسفي هو ما يحتاجه المقال ليكتمل: أن يُميّز بين أخلاق الطبيب وعدالة المشرّع.
رابعًا: في المعنى الأخلاقي للقرار
يتعامل المقال مع فكرة الحلّ باعتبارها عقوبة أخلاقية قبل أن تكون إجراءً إداريًا. وقد نجح الدكتور رضا في نقل النقاش من البُعد الإداري إلى البُعد الإنساني، محذرًا من استسهال القرارات التي تمسّ كرامة العمل المدني. لكن، من منظور نقدي، يمكن التساؤل: هل يجب دائمًا تأويل كلّ قرار حكومي على أنه مسّ بالحرية؟ أم أن بعض الحلول قد تكون ضرورة إصلاحية لضبط التوازن بين الحرية والمسؤولية؟
النقد هنا لا ينفي الحرص على الحريات، بل يسائل فكرة المثالية المطلقة التي تجعل الدولة دائمًا في موضع الشبهة. فالدولة قد تُخطئ، نعم، لكنها أيضًا مسؤولة عن حماية المصلحة العامة. وإذا كانت الجمعيات ركنًا من أركان الديمقراطية، فالدولة أيضًا رقيب على استقامة هذا الركن. المعادلة الدقيقة تكمن في الحوار لا في المفاصلة.
خامسًا: اللغة كموقف
لغة الدكتور محمد خليل رضا ليست محايدة، وهي لا تدّعي الحياد أصلًا. إنها لغة متمرّدة على الجفاف الأكاديمي، مشحونة بالوجدان، تفيض بالصور والتشابيه. لكنها أيضًا لغة مقاومة، تحاول أن تقول: «القانون لا حياة له بلا ضمير». من هنا تكمن قوتها وضعفها في آنٍ واحد — فهي قادرة على الإقناع العاطفي أكثر من الإقناع الإجرائي.
وهنا يأتي دور النقد التحليلي ليعيد التوازن بين العاطفة والفكر، بين اللغة المشتعلة والمنهج البارد، حتى لا يتحول النصّ إلى لوحة جميلة تخفي خلف ألوانها الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة قانونية دقيقة.
سادسًا: تقييم ختامي
إنّ مقال الدكتور محمد خليل رضا ليس مجرّد نصّ عن «حلّ جمعية رسالات»، بل هو بيان فلسفي في معنى العدالة والضمير. وإذا كان في مقاله طولٌ، فذاك لأنّ فيه قلق الباحث وحسّ الطبيب وغيرة المواطن. أما هذه القراءة النقدية، فغايتها أن تُضيء ما بين السطور: أن تعيد تفعيل الحوار بين الفكر والواقع، بين المبدأ والتطبيق، بين العدل كقيمة والقرار كفعل.
لقد أثبت الدكتور رضا في مقاله أن الفكر القانوني يمكن أن يُكتب بلغة الأدب، وأنّ الجراح يمكن أن يكون فيلسوفًا حين يكتب عن الدولة. لكنّ النقد يذكّرنا دائمًا بأنّ البلاغة لا تُغني عن الدليل، وأنّ جمال اللغة يجب أن يوازيه انضباط الحُجّة.
في النهاية، لا أرى في نصّه سوى تأكيدٍ جديدٍ على أنّ العدالة فكرة حيّة لا تموت ما دام هناك من يجرؤ على التفكير بصوتٍ عالٍ. وذلك ما فعله الدكتور محمد خليل رضا… وما يدفعنا إلى قراءة نصّه لا كحدثٍ إعلاميّ، بل كدرسٍ في العلاقة بين الكلمة والحقّ، بين المعرفة والموقف، بين الدولة والضمير.
بقلم الدكتورة فاطمة أبوواصل إغبارية
كاتبة وباحثة في الفكر واللغة والهوية
مؤلفة رواية «حريم في الغربة» وكتاب « سلسة الكلمات العربية العابرة للقارات» ” سلسلة الخطأ والصواب في اللغة العربية ” الحنين إلى المستقبل ” سلسلة مواضيع إعرابية في اللغة العربية ” غزة من بين الركام – المدينة التي تحلم ” ديوان فيك أغني ” حروف تنبض أنوثة ” والعديد من الابحاث العلمية والأدبية .

