الدين والشريعة
أ. د. لطفي منصور (أَفَلا تَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)
“إنّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَما أّدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرّوحُ فِيها، بِإذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ”
لَوْ تَدَبَّرْنا هَذِهِ الْآياتِ الْكَرِيمَةَ لَتَجَلَّتْ أمامَنا عَظَمَةُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وَتَعالَى، وَلَزادَ إيمانُنا يَقينًا أنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ وَمُعْجِزَةُ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
اُنْظُرُوا إلى فَصاحَةِ كَلِماتِ هَذِهِ الْآياتِ الْكَريمَةِ وَشِدَّةِ بَيانِها، أَفْعالًا وَأَسْماءً وَحُروفَ الْمَعاني، وَحُروفَ الْمَباني، ماذا تَجِدُونَ؟
تَجِدُونَها سَهْلَةً في النُّطْقِ، لا يَتَلَعْثَمُ فِيها لِسانٌ، سَهْلَةَ الْمَخارِجِ تَسيلُ عَلَى اللِّسانِ ، وَمِنْ أَعْضاءِ النُّطْقِ كَالْجَدْوَلِ الْجاري، لَوْ تّلاها القارِئُ عَشَراتِ الْمَرَّاتِ لَرَغِبَ في الزِّيادَةِ، وَلا يُحِسُّ بِمَلَلٍ أوْ نَصَبٍ.
هَذِهِ الْأَلٌفاظُ القُرْآنِيًّةُ لَها وَقْعٌ خَفِيفٌ وَجَميلٌ عَلَى الْأُذُنِ. لا تَجِدُ حَرْفًا فيها قَدْ نَشَزَ جَرْسُهُ، وَكَذلكَ هُوَ الْقُرْآنُ لا يَكُونُ في نَغَماتِهِ الصَّوْتِيَّةِ الْمُتَناسِقَةِ أَيُّ خُروجٍ عَنِ النَّسَقِ الْعامِّ. وَلا في هَنْدَسَةِ جُمَلِهِ الْمُتَّسِقَةِ أَيُّ بُروزٍ يُخِلُّ في رَصْفِ الْمُفْرَداتِ في الْآياتِ، هذا هُوَ الْإعْجازُ الَّذي لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرِ.
التَّفْسِيرُ:
“إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ”: عَبَّرَ اللَّهُ جَلَّ جَلالُهُ عَنِ الذّاتِ الْإلَهِيَّةِ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمينَ، وَذَلِكَ تَعْظيمًا لِلْحَضْرَةِ الْإلَهِيَّةِ، وَمِثْلُها: “إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوثَرَ”؛ وَ”إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإنّا لَهُ لَحافِظِونَ”، الضَّميرُ “نَحْنُ” هنا تَوْكيدٌ لِزِيادَةِ التَّعْظيمِ لِلْحَضْرَةِ الْإلَهِيَّةِ، وَذُكِرَتْ “نَحْنُ” أَيْضًا لِلتَّعْظيمِ : “وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوّريدِ”، وَتَكَرَّرَ هذا التَّعْظيمُ في كَثيرٍ مِنَ الْآياتِ.
-“أَنْزَلْناهُ”: ضَمِيرُ الْغائبِ الْحاضِرِ هُنا لِلشَّأْنِ ، أَيْ الْقُرْآنُ. وَحَذْفُ كَلِمَةِ قُرْآن جاء لِلتَّعْظيمِ، لِأَنَّهُ مَعْروفٌ فَكَنّى عَنْهُ بِضَميرِ الْغائِبِ الْحاضِرِ.
جاءَ التَّنْزيلُ بِثَلاثِ مَراحِلَ: مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفوظِ إلَى سَماءِ الدُّنْيا،ثُمَّ إلَى جِبْرائيلَ عَلَيْهِ السَّلامً، ثُمَّ مِنْهْ إلَى قَلْبِ نَبِيِّنا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
– “في لَيْلَةِ الْقَدْرِ”: لَيْلَةٌ مِنْ لَيالي الْعَشْرِ الْأَواخِرِ مِنْ رَمَضانَ، في غارِ حِراءَ. والْجُمْهورُ عَلَى أَنَّها لَيْلَةُ السّابِعِ والْعِشْرينَ مِنْه. وَفي ذَلِكَ عِدَّةُ أَقْوالٍ.
الْقَدْرُ: الشَّرَفُ وَالتَّعْظيمُ لِنُزولِ الْقُرْآنِ بِها. وفيها تُقَدَّرُ الأَرْزاقُ، وَتُدَبَّرُ الْأُمورُ وَالْأَحْكامُ، واللَّهُ سُبْحانَهُ هُوَ الْمُدَبِّرُ.
– “وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ”: دَرَى الشَّيْءَ عَلِمَهُ وَعَرَفَهُ، وَالْمَصْدَرُ الدِّرايَةُ. الاسْتِفْهامُ هنا لَيْسَ لِلْإجابَةِ بَلْ لِتَعْظيمِ شَأْنِ اللَّيْلَةِ. أّيْ ما أَعْلَمَكَ أَيُّها النَّبِيُّ ما هَذِهِ اللَّيْلَةُ وَما فَضْلُها.
– “لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ”: أيْ الْعَمَلُ الصّالِحُ وَالْعِبادَةُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ خَيْرٌ مِنَ الْعِبادَةِ في أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيها لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
لا تَلْتَفِتُوا إلى رِوايَةِ ابْنِ جَرِيرِ الطَّبَرِيِّ التي نَقَلَها مِنْ تَفْسِيرِ مُجاهِدٍ أنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرائِيلَ كانَ يَقومُ اللَّيْلَ حَتَّى يُصْبِحَ، ثُمَّ يُجاهِدُ الْعَدُوَّ في النَّهارِ حَتَّى يُمْسِيَ، فَعَمِلَ ذَلِكَ أَلْفَ شَهْرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ “لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ” عَمِلَها ذَلِكَ الرَّجُلُ. لِأنَّها مِنَ الْإسْرائيلِيّاتِ. والتَّوْراةُ الَّتي بَيْنَ أَيْديهِمُ تَفْتَقِرُ إلى مِثْلِ سورَةِ الْقَدْرِ.
– “تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها”: تَنَزَّلُ: حُذِفَ مِنْها إحْدَى التَّاءَيْنِ بَلاغَةً، أَصْلُها تَتَنَزَّلُ. الرُّوحُ الْأَمِينُ المَلاكُ جِبٍرائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ الْمُوكَلُ بِالرِّسالاتِ. في تِلْكُمُ اللَّيْلَةِ تَتَنَزَلُ الْمَلائِكَةُ إلى سَماءِ الدُّنْيا، ثُمَّ إلى الْأرضُ، ولا يَعْرِفُ عَدَدَهُمْ إلّا اللَّهُ تَعالَى.
– “بِإذْنِ رِبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ”: بِإذْنِ رَبِّهِمْ: بِأَمْرِهِ، اللّّهُ آذَنَهُمْ بِرِسالّتِهِ هَذِهِ، وَأَمْرِه الَّذي قَضاهُ اللَّهُ فِيها لِلسَّنَةِ الْقادِمَةِ – الَّتي تَبْدَأُ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ – وَهُوَ أَمْرُهُ بِكُلِّ الْخَيْرِ لِلطّائِعِينَ الْعابِدينَ، كَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِمْ، وَالِاسْتِغْفارِ وَالدُّعاءِ لَهُمْ.
– “سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ”: لَيُلَةُ الْقَدْرِ هِيَ سَلامَةٌ كُلُّها مِنْ أَوَّلِها (الْمَغْرِبِ) حَتَّى طُلوعِ الْفَجْرُ ، وَهُوَ انْفِجارُ الضَّوْءِ مِنَ الظَّلامِ وَبُزُوغُهُ.
أنالَنا اللَّهُ وَإيّاكُمْ رِضْوانَهُ وَنَعِيمَهُ وَتَوْفيقَهُ.
آمينْ.
وَكُلُّ عامٍ وَأَنْتُمْ بِخَيْرٍ