مقالات
الصحافة التونسية في خطر وكذلك حق المجتمع التونسي في الحقيقة
إنّ مجلس الصحافة بصفته هيئة تعمل على إرساء التعديل الذاتي وفقا لمدونة أخلاقيات المهنة الصحفية وحماية حرية الصحافة والدفاع عن حق الجمهور في الحصول على أخبار ذات جودة، يعاين ما يشهده القطاع من أزمة خانقة وخطيرة تمثل تهديدا لوجودها واستمراريتها، وتعطل أدوار الصحافة في أداء مهامها كمؤسّسة من مؤسسات المجتمع، قادرة على ضمان حق الجمهور في الحقيقة وفي الاطلاع على الشأن العام.
وتتجسد أزمة الصحافة اليوم في مظاهر عديدة تشمل الأوضاع المهنية للصحفيين والصحفيات وهشاشة المؤسسات الصحفية العمومية والخاصة وإجراءات سياسية زجرية وتهديدات لحرية العمل الصحفي. كما تتجسد أيضا في تخلي السلطات العمومية عن مسؤوليتها لضمان حق التونسيين والتونسيات الدستوري في الإعلام.
إن أزمة الصحافة من جهة أولى، وتنامي استراتيجيات التضليل المعلوماتي المتعدد الأشكال والآليات في مواقع الشبكات الاجتماعية من جهة ثانية، يخلق اليوم شروط التلاعب بالرأي العام بشكل منظم وشامل من أطراف داخلية، وحتى خارجية مما يمكن أن يهدد السلم الاجتماعية وينسف إمكانات العيش المشترك.
كما أن أزمة الصحافة تعد نتيجة سياسات حكومية ما تزال مستمرة إلى اليوم، لم تر في الصحافة سوى آلية للتأثير في الرأي العام والتلاعب به، مما أدى إلى النتائج الوخيمة التالية:
أولا: غياب سياسة عمومية تهدف إلى النهوض بقطاع الصحافة والإعلام وذلك لانعدام رؤية إصلاحية واضحة وشاملة لتأهيل مؤسسات الإعلام العمومي والخاص يتم بلورتها بصفة تشاركية مع مختلف المتدخلين، وهو ما فسح المجال إلى التوظيف الممنهج للصحافة لغايات الاتصال السياسي أو الحكومي والتوظيف متعدد الأوجه، الأمر الذي تسبب في تهميش القطاع وتركه إلى مصيره في مواجهة أزماته، في غياب شبه تام للسلطات العمومية المعنية أساسا بهذا القطاع منذ 2011 إلى الآن.
ثانيا: إهمال الإعلام العمومي وهو المصدر الذي وجب أن يكون أكثر مهنية وتنوعا بحكم نشأته وتمويله والتلكؤ في إصلاحه وهوما انعكس سلبا على العديد من مؤسساته التي أضحت تعاني أزمة هيكلة ومالية خانقة. وفي غياب هذا الإصلاح، أصبحت مؤسسة التلفزة التونسية غير مستجيبة في الأغلب لشروط المرفق العمومي مع استثناء نشرات الأخبار، في تناولها لقضايا الشأن العام في استهداف واضح للأسس الجوهرية المستوجبة في إعلام عمومي يحترم التنوع والتعدد وتمثيل مختلف حساسيات المجتمع الفكرية والسياسية والثقافية، مما يحولها إلى جهاز دعاية.
ثالثا: إهمال مؤسسات الإعلام المصادرة والحال أنه كان من المفروض أن يتم حوكمة التصرف بها واتخاذ كل الإجراءات القانونية من أجل ضمان استمراريتها وأدائها وتم وتركها لحالها في مواجهة مشاكل مستحدثة دون تمكينها من وسائل مؤسساتية ولوجستية لمعالجتها وفق مقاربة ذات جدوى أو حلّ مشاكلها المتعددة، مما ساهم في تعكير وضعيتها وتهديد مورد رزق عدد هام من الصحفيين والصحفيات وتهديد المشهد الإعلامي في تعدديته واختلافه وتنوعه.
رابعا: أزمة حادة تعصف بوجود الصحافة الورقية مما ينذر بأن هذا القطاع الحيوي للمجال العام هو على مشارف الاندثار كليا.
خامسا: رفض الحكومة التفاعل إيجابيا مع هياكل المهنة، وفتح باب الحوار والتفاوض حول مشكلات القطاع المتعددة والعميقة والتي تحتاج مقاربة إصلاحية-تشاركية وشاملة.
سادسا: سياسة استبعاد الصحافة كمؤسسة تقوم بإخبار المجتمع عن الشأن العام بالحد من الحق في الوصول إلى المعلومة سواء من مصدرها أو بحضور المسؤولين والمسؤولات في الحكومة أو مؤسسات الدولة المعنية عموما في البرامج الإخبارية والاكتفاء في المقابل بسياسة الاتصال الحكومي من خلال مقاربة أفقية تكتفي بالحد الأدنى من البلاغات وتحول الصحافة إلى مجرد ناقل، والحال أنه من واجب المؤسسات الحكومية والعمومية الانفتاح على المجتمع والجمهور بواسطة الصحافة.
سابعا: تعاظم مكانة الدخلاء الذين نفذوا للقطاع والذين يمارسون السياسة بواسطة الصحافة ويوظفونها لأغراض سياسية وليس خدمة لحق الجمهور في معرفة الحياة العامة ولا بهدف تجسيد خدمة الصحافة المتمثلة في البحث عن الحقيقة، مما يؤدي باستمرار إلى تشويه صورة الصحافة والإضرار بمصداقيتها لدى الرأي العام وتهميش أدوراها في المجال العام.
ثامنا: تهميش مكانة الصحفيين والصحفيات حتى أن بعض المؤسسات الاعلامية في القطاع السمعي البصري تشتغل بلا طواقم صحفية وهو ما يتعارض بشكل كامل مع كراسات الشروط التي تحصلت وفقها على إجازات البث.
تاسعا: الآثار السلبية المترتبة عن المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال الذي أضحى خطرا مهددا لحق الصحافة الدستوري في النفاذ إلى المعلومات الضرورية لصناعة الأخبار و نشرها، خاصّة بالنظر إلى المصطلحات العامة و غير الدقيقة التي تترك مجالا لحرية التأويل وبالتبعية الإدانة لأي عمل صحفي، وهو ما أدى بصفة ضمنية إلى تضييق مناخ الحرية و بث ثقافة الرقابة الذاتية و سيؤول، إن عاجلا أو آجلا، إلى تضييق فضاء الحريات الصحفية و بالتالي حق الجمهور في المعلومة الجيدة و ضمان تعددية و الاختلاف و التنوع.
عاشرا: خلق مناخ من انعدام ثقة الجمهور في المؤسسات الإعلامية لغياب المعلومات القضائية حول ما ينسب لأي متدخل في القطاع الصحفي أو الإعلامي عامة من أفعال وهو ما يشكل زعزعة لأداء الصحفيين/ات وتشكيك في المحتوى الصحفي لارتباطه بالإشاعات والتخمينات في غياب الحق في الولوج للمعلومة.
إن أزمة قطاع الصحافة في تونس ليست جديدة، بل هي نتيجة تراكمات هيكلية وسياسات عمومية مستمرة، رغم أن المهنة كانت تطمح بفضل النصوص القانونية وآليات الحوكمة المستحدثة التي تم إرساؤها في بداية الانتقال (السياسي) إلى تأسيس بيئة مهنية تصبح الصحافة بفضلها مؤسسة قوية قادرة على مساءلة ومراقبة السلطة السياسية والسياسات العمومية ومجسدة لحق التونسيين والتونسيات في الإعلام وفي حكم شفاف ومسؤول أمام التونسيين والتونسيات باعتبارها سلطة رابعة حقيقية