التكنولوجيا

الجيل الخامس ومستقبل العلاقات الدولية

د. وسيلة محمود الحلبي

تأتي تقنية الجيل الخامس في مقدمة ابتكارات صناعة الاتصالات وتقنية المعلومات خلال العصر الرقمي الحالي لما تحمله معها من فرص كبيرة لتطوير ونمو الأعمال والخدمات، وبالتالي المساهمة في دعم الانتعاش الاقتصادي للدول خصوصاً بعد سنوات من الركود تلت جائحة كوفيد 19 وتذبذبات سعر النفط وحالة الحرب الراهنة بين روسيا وأوكرانيا وما تحمله معها من تحالفات دولية جديدة تعتمد بشكل كبير على قدرات التكنولوجيا لإحداث فارق في حلبة التنافس.
من أهم ميزات الجيل الخامس انعكاساته الايجابية على أعمال مختلف القطاعات والصناعات على مستوى ترقية الاتصال وإتاحة مزيد من الخدمات الرقمية بالاستفادة من قدرات الدمج مع تقنيات أخرى مهمة كالذكاء الاصطناعي والسحابة والحوسبة والتطبيقات الصناعية، وجميعها تضخ قدرات جديدة على طريق التحول الرقمي والتنمية الاجتماعية والاقتصادية. ويقول الخبراء أن من يملك مفاتيح الأجيال القادمة من تكنولوجيا الاتصالات كالجيل الخامس (5G) والجيل الخامس والنصف (5.5G) والجيل السادس (6G) الذي بدأ التنافس في مجال البحث والتطوير الخاص به.
أحد أهم أسباب التوتر القائم بين الولايات المتحدة والصين ترتكز في واقع الأمر على صراع السيطرة على تقنية وسوق اتصالات الجيل الخامس العالمي، حيث باتت الولايات المتحدة على ثقة بأن استراتيجية الصين في التركيز على التفوق التكنولوجي وغزو الأسواق العالمية من خلال شركاتها العملاقة مثل “هواوي” يشكل مصدر قلق كبير لها ولتاريخ سيطرتها على التكنولوجيا عالمياً، ما دفع بها لشن حملة متواصلة على الصين وشركاتها في إطار ادعاءات تهديد تكنولوجيا الصين للأمن القومي وخروقات الأمن السيبراني.
وتتمثل حملة الولايات المتحدة الأمريكية ضد الصين وشركاتها بالتعاون مع مختلف حلفائها بفرض حظر على حصول الشركات الصينية على أية منتجات قد تسهم في تفوقهم التكنولوجي وأهمها الرقاقات. وتحاول الولايات المتحدة أقناع كافة حلفائها بعدم قبول تكنولوجيا الجيل الخامس من شركات الصين كزي تي إي وهواوي الأكثر اهمية التي تفوقت في هذا المجال عالمياً وفرضت نفسها كمنافس شرس في سوق اتصالات الجيل الخامس. ومن هنا، فقد باتت حلبة التنافس في مجال الجيل الخامس مدفوعة بالتحالفات السياسية ويتم اتخاذ قراراتها بدوافع جيوسياسية بعيداً عن الحقائق العلمية والبراهين الواقعية وضرورة تحييد التكنولوجيا عن القضايا السياسية لعدم الحد من تعميم فوائدها الإيجابية على البشرية.
دول منطقة الشرق الأوسط من الدول التي استطاعت خلق توازنات جيدة بين الولايات المتحدة والصين في مجال استخدام التكنولوجيا. فدول مجلس التعاون الخليجي على سبيل المثال باتت رائدة عالمياً في نشر وتطبيقات الجيل الخامس ولم يكن لديها تحفظات بخصوص استخدام تكنلوجيا الجيل الخامس من الشركة الصينية الأهم في هذا المجال هواوي. لكن حملة الولايات المتحدة الأمريكية ضد هواوي لا تتوقف، بل تزداد زخماً ويصل تأثيرها لدول أخرى في المنطقة تنوي خوض تجربة إطلاق الجيل الخامس، خصوصاً الدول التي تربطها تحالفات استراتيجية مع الولايات المتحدة.
المملكة الأردنية الهاشمية هي المثال الحي الحالي على ذلك، إذ يعتبر الإعلان عن إطلاق تكنولوجيا الجيل الخامس فيها نقطة تحول في مسيرة الرقمنة، وينتظر منه أن يحقق مكاسب مهمة في إطار رؤية التحديث الاقتصادي للأردن. ومن المهم بالنسبة للحكومة الأردنية التعامل مع تحديات مهمة تقف في وجه المشروع ، فشركات الاتصالات من القطاع الخاص التي تستهدف الربحية لا يمكنها تنفيذ المشروع بدون دعم الحكومة التي قدمت فعلياً باقة محفزة لهم، لكنها غير كافية من وجهة نظرهم.
وبالنسبة لاختيار الموردين الذين سيبنون شبكات الجيل الخامس لشركات الاتصالات في الأردن، من المهم بالنسبة لهم أن ترتكز الحكومة الأردنية على ضمان بيئة عمل عادلة وتنافسية شفافة بين الموردين العالميين بغض النظر عن جنسية المورد، حيث ستسهم بيئة الأعمال التمكينية للموردين العالميين في تشجيعهم على توفير خبراتهم وقدراتهم لدعم الأردن لنشر ميزات الجيل الخامس لكافة القطاعات والصناعات. ومن المهم أن يتم توفير فرص متساوية للموردين على أساس الكفاءة والخبرة والسعر وتطبيق المعايير التقنية الدولية، بعيداً عن الاعتبارات الأخرى كالتحالفات الدولية.
في الأردن، تشير الوقائع بأن هواوي هي المرشح الأول لدعم مشروع إطلاق الجيل الخامس بالنظر لحصتها السوقية الكبيرة في سوق الاتصالات مع المشغلين الثلاثة زين وأورانج وأمنية وابتكاراتها في هذا المجال والتي تتفوق فيها على المنافسين، وخبراتها العالمية وتوفيرها لأحدث الحلول والمنتجات والخدمات وحالات الاستخدام التجاري الأفضل التي أثبتت نجاحها في أسواق عديدة من المنطقة والعالم. ويجب أن تستفيد الأردن من تجارب الدول الأخرى كدول الخليج التي باتت رائدة على مستوى العالم في تنفيذ شبكات الجيل الخامس بالشراكة مع هواوي وتعتبر تجاربها اليوم نموذجًا عالمياً يحتذى به.
مشروع إطلاق الجيل الخامس في الأردن مثال على القرارات التي يجب أن تتخذ بعيداً عن أية اعتبارات أخرى غير عالم التكنولوجيا. وإن قررت الأردن التعامل مع المشروع على ضوء تحالفاتها مع الولايات المتحدة ومنع هواوي من العمل على بناء أعمال شبكات الجيل الخامس بحسب توصيات الناتو والاستخبارات الأمريكية، يمكن أن يخسر الأردن مكاسب كثيرة من المشروع، وقد تتشكل حالة ذبذبة في العلاقات مع الصين، الشريك الاستراتيجي الاقتصادي الأهم للأردن.
فرض ضغط على شركات الاتصالات في الأردن بموجب توجيهات الاستخبارات لرفض العمل مع هواوي ومحاولات توفير البديل لهم من خلال طيف ترددي مجاني أو تعويضات مالية، قد لا يكون حلاً واقعياً بديلاً عن ابتكارات الجيل الخامس المتفوقة من هواوي وأسعارها التنافسية جداً. وأهم من ذلك خسارة المشغلين لفرص استكمال نجاحات شبكاتهم بالشراكة مع هواوي التي تمتلك منها حصة كبيرة، وبالتالي خسارة مادية ومردود أقل بالنسبة للمستخدمين النهائيين على مستوى الخدمات.
يقول خبراء الصناعة بأن ريادة أعمال هواوي للجيل الخامس كان بفضل البحث والتطوير والاستثمارات الكبيرة المتواصلة في الابتكار، حيث بدأت الشركة البحث والتطوير في الجيل الخامس عام 2009 وبلغت استثماراتها على مدار 10 سنوات أكثر من 132.5 مليار دولار. وفي عام 2021 استثمرت 22.4 مليار دولار في البحث والتطوير أي ما يعادل 22.4% من إيراداتها السنوية. وتمتلك هواوي أكبر عدد من براءات الاختراع على المستوى العالمي، ونالت بحلول عام 2021 أكثر من 110,000 براءة اختراع مما ساهم في ازدهار أعمال الجيل الخامس
محطات الجيل الخامس الرئيسية التي توفرها هواوي كانت في مقدمة الابتكارات التي اجتازت اختبار أمان تجهيزات الشبكات للجمعية الدولية للهاتف المحمول (GSMA) الأكثر اعتماداً وموثوقية في صناعة الاتصالات وتقنية المعلومات. وتمتلك الشركة مكانة رائدة في الأمن السيبراني على المستوى العالمي. وساهمت حتى اليوم بتشغيل أكثر من 1500 شبكة اتصالات توفر من خلالها خدماتها لأكثر من ثلث سكان العالم في أكثر من 170 دولة ومنطقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق