مقالات

تصحيح التّاريخ: Lotfy Mansour أ.د. لطفي منصور

“وَسَتَنْبَحُكِ كِلابُ الْحَوْأَبِ، وَأَنْتِ يَوْمَئِذٍ مَعَ الْفِئِةِ الضّالَةِ”.
هذا كَلامٌ مَنْسوبٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ مُوَجَّهٌ إلَى عائِشَةَ أُمِّ الْمُؤمِنينَ الَّتي وَصَفَها النَّبِيُّ قائِلًا لنا: “خُذُو نِصْفَ دِينِكُمْ عَنْ هَذِهِ الْحُمَيْراءَ”. فَقَدْ رَوَى عَنْها عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ابْنُِ أُخْتِها أسْماءَ، وَعنْ جارِيَتِها عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ حَديثٍ رواها أصحابُ الصِّحاحِ السِّتَّةِ، هِيَ قَلْبُ وَروحُ الْفِقْهِ الإسْلاميِّ.
حاقَ الظُّلْمُ بِعائِشَةَ في عَهْدِ النَّبِيِّ، وَتَضاعَفَ بَعْدَهُ. أرَدْتُ في هَذِهِ الكَلِماتِ أنْ أَكْشِفَ حَقيقَةَ التُّهَمِ التي وُجِّهَتْ ظُلْمًا إلَى أمِّ الْمُؤمِنينَ حَسَدًا وَ زورًا، مُعْتَمِدًا وَمُنَقِّحًا تٍلْكُمُ الرِّواياتِ الكاذِبَةَ مُسْتَعينًا بالْمَصادِرِ الأولَى لِلتّاريخِ الإسْلامي الَّذي تُوجَبُ غَرْبَلَتُهُ.
تَحَدَّثَ ابنُ خَلْدُون في “المُقَدِّمَةِ” عَنِ الْمُؤَرِّخِينَ الْمُسْلِمينَ كَالْمَسْعودي والطَّبَرِي وابنِ إسحاق (في حديثِِهِ عَنِ الأوائِل) وغيرِهِمْ، وَاتَّهَمَهُمْ بِالْمُبالَغاتِ، وَعَدَمِ التَّثَبُّتِ مِنَ الأخْبارِ والرِّوايات. فَالرِّوايَةُ الإسْلامِيَّةُ تَحتاجُ إلَى نَظْرَةٍ جَديدَةٍ، وهِناكَ رُواةٌ عُرِفُوا بِالْكَذِبِ، كَسَيْفِ بْنِ عُمَرَ، وَأبي مِخْنَفْ، وهُما مِنْ رُواةِ محمَّد بن جريرٍ الطََبَرِيِّ (ت٣١٠هج) أكْبَرُ مُؤَرِّخٍ إسْلامِيِّ وكذلكَ الْواقدي الذي سَطا عَلَى كثيرٍ من سيرَةِ ابنِ إسْحاقَ، قِسْمَ الْمَغازي، ونَسَبَها لِنَفْسِهِ.
فَنَحْنُ أمامَ رِواياتٍ تَحْتَمِلُ الكذِبَ. وَقَدْ عانَتْ أُمُّ الْمُؤمِنينَ عائِشَةُ مِنْ كَذِبِ الرِّواةِ.
فَفي عَهْدِ النَّبِيِّ عانَتْ عائِشَةُ مِنْ حديثِ الْإفْكِ فَبَرَّأَها اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ، وَنَزَلَ بِها القُرْآنُ، وهوَ خَيْرُ بُرْهانٍ عَلَى طَهارَتِها وَنَقاوَتِها.
وعانَتْ في عَهْدِ النَّبِيِّ مِنْ كَيْدِ ثَمانيِ ضَرائِرَ، فكانَتْ لُقْمَةً تَمْضَغُها عَلّاتُها حَسَدًا وَكَيْدًا، إلَى أَنِ اتَّقَيْنَ اللَّهَ وَرسولَهُ.
أَمّا مُشْكِلاتُها الٍكُبْرَى فَأوجِزُها بِهَذِهِ السُّطور:
– اتَّهامُها بِالتَّحْرِيضِ عَلَى قَتْلِ عُثْمان، فقدْ رَوى خُصومُها أَنَّها كانَتْ تَقولُ: “اُقْتُلُوا عَنْثَلَ فَقَدْ كَفَرَ”. وَعَنثَلُ هذا يهودِيٌّ كانَ لَهُ لِحْيَةٌ طَويلَةٌ وَكَثيفَةٌ يُشَبِّهُونَ عُثْمانَ بِهِ.
غَيْرَ أنَّ الْمُؤَرِّخِينَ التُّقاةَ دَحَضُوا ذَلِكَ، وَمِنْهُمُ الوزيرُ منصورٌ الآبِيُّ في الدًّرِّ الْمَنثُورِ، وَابْنُ عَبْدِ رَبِّهِ في الْعِقْدِ الْفَريد، وَابْنُ أَبي الٍحَديدِ في شَرْحِ نَهْجِ البلاغَةِ، فقدْ رَوَوْا ما قالَتْ عائِشَةُ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمانَ ما يَلِي:
“إنّا نَقِمْنا عَلَى عُثْمانَ ثَلاثًا: إمْرَةَ الْفَتَى، وَضَرْبَ السَّوْطِ، وَحِمايَتَهُ مَوْضِعَ الْغَمامَةِ، حَتَّى إذا أَعْتَبْنا مِنْهُنَّ مُصْتُمُوهُ مَوْصَ الثَّوْبِ بِالصّابُونِ، ثُمَّ عَدَوْتُمْ بِهِ الْفِقَرَ الثَّلاثَ: حُرْمَةَ الإسْلامِ، وَحُرْمَةَ الْخِلافَةِ، وَحُرْمَةَ الشَّهْرِ الْحَرامِ. وَاللِّهِ لَعُثْمانُ أَتْقاهُمْ لِلرَّبِّ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحْمِ، وَأَعَفُّهُمْ لِلْفَرْجِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ”.
(إمْرَةُ الفَتَى تَقْصِدُ مَرْوانَ بنَ الْحَكَمِ كاتِبِ عُثْمانَ، مَوْقِعُ الغَمامَةِ: الأرْضُ التي فَوْقَها الْغمامَةُ الماطِرَةُ كانتْ حِمًى لِعُثْمانَ، ماصَ الثَّوْبَ: غَسَلَه، تَعْنِي دَمَ عُثْمانَ، عَدَوْتُمُ: انْتَهَكْتُمْ الْحُرُماتِ الثَّلاثَ في قَتْلِ عُثْمانَ)
– خُصُومَتُها لِعَلِيٍّ:
الرِّوايَةُ الشّائِعَة تَعْزو سَبَبَ الخُصومَةِ إلَى مشورَةٍ لِعَلِيٍّ قالَها لِلنَّبِيّ عِنْدَما رآهُ في هَمٍّ شَديدٍ عَلَى أَثَرِ حادِثَةِ الْإفْكِ: “اُتْرُكِ الجارِيَةَ
فَالنِّساءُ كَثيراتٌ”. هذا مُنافٍ لِلْواقِعِ، والنَّبِيُّ ليسَ بحاجَةٍ إلى مَشورَةِ أحَدٍ في أمْرٍ شَخْصِيٍّ يَهُمُّهُ، القَضِيَّةُ حُسِمَتْ بِالتَّنزيلِ، وَعَلِيٌّ أوََلُ مَنْ آمَنَ بالرسَالَةِ والوَحْيَ.
السَّبَبُ في هذا الْخِلافِ سِياسِيٌّ مَحْضٌ، ولَهُ عَلاقَةٌ في خِلافَةِ عُثْمانَ.
حُوصِرَ عُثْمانُ في يَوْمِ الدّارِ أَيّامًا عِدَّةً، وَلَمْ يَتَحَرَّكْ عَلِيٌّ لِنُصْرَتِهِ، وَقَدْ أرْسَلَ عُثْمانُ لَهُ مُسْتَغيثًا:
إنْ كُنْتُ مَأْكُولًا فَكُنْ خَيْرَ آكِلٍ
وَإلَّا فَأَدْرِكْنِي وَلَمّا أُمَزَّقِ
يُقالُ إنَّ عَلِيًّا أرْسَلَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ بِشَفْرَتَيْنِ إلَى الْمُحاصِرينَ، وَماذا يَفْعَلُ صَبِيّانِ؟؟
قُتِلَ عُثْمانُ وَدُفِنَ لَيْلًا في مكانٍ مجْهول، وبويِعَ عَلِيٌّ بالْخِلافَةِ، وَتَلَكََأَ الزُّبَيْرُ بنُ الْعَوّامِ وَطَلْحَةُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُما مِنَ الْمُبَشَّرينَ بِالْجَنَّةِ، وَعُضْوانِ في مجلِسِ الشُّورَى الذي عَيَّنَهُ عُمَرُ بنُ الْخَطّابِ. وَكانَ الزُّبَيْرُ يَطْمَعُ في الْخِلافَةِ، لَكِنَّ شيعَتَهُ كانَتْ ضَعيفَةً.
أُجْبِرَ الزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ عَلَى إعْطاءِ الْبَيْعَةِ لِعَلِيٍّ، واتَّفَقا مَعَ عائِشَةَ عَلَى الهُروبِ لَيْلًا مِنَ الْمَدينَةِ إلَى الْبَصْرَةِ. كانَتِ البَصْرَةُ عُثْمانِيَّةً، وَالْكُوفَةُ عَلَوِيَّةً.
لا شَكَّ أنَّ عائِشَةَ قَدْ وافَقَتْ زَوْجَ أُخْتِها الزُّبَيْرَ عَلَى الٍمَسيرِ إلَى العِراقِ، وَلَمْ تَعْترِفْ بَخِلافَةِ عَلِيٍّ.
– كِلابُ الٍحَوْأَبِ:
بَدَأْتُ هَذِهِ الْمَقالَةَ بَحَديثٍ مَوْضوعٍ عَلَى لِسانِ النَّبِيِّ وَعائِشَةَ. تَقولُ الْحِكايَةُ عِنْدَما وَصَلَ رَكْبُ عائِشَةَ إلَ بِئْرِ ماءٍ قَريبَةٍ مِنَ الْبَصْرَةِ نَزَلَ الْقَوْمُ لٍيَتَزوَّدًُوا بالْماء، بَدَأتْ كِلابٌ تَنْبَحُ عائِشَةَ، فَهَمَّتْ بِالرُّجوعِ إلَى المدينَةِ، فَسَأَلوها عَنِ السَّبَبِ فَذَكَرَتْ لَهُمْ الحديثَ. قِصَّةٌ مُلَفَّقَةٌ تَصُبُّ في مَصْلَحَةِ خُصومِ الْقَوْمِ.
مَعْرَكَةُ الجَمَلِ:
تَرَكَ عَلِيٌّ الْمَدينَةَ وسافَرَ بِأَصْحابِهِ إلَى الكوفَةِ، وجَمَعَ جَيْشًا كَبيرًا، وَعَزَمَ عَلَى قِتال
“الْمُنْشَقِّينَ” الَّذينَ جمَعُوا جيشًا آخَرَ قُدِّرَ عَدَدُهُ بُخَمْسَةٍ وَعِشْرينَ ألْفًا، ضِعْفُهُمْ مَعَ عَلِيٍّ.
ذَكَرَ أبو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ (ت ٢٨١هج) روايَةً في كتابِ التّاريخِ (بِتَحْقيقِنا ودِراسَتِنا) مُسْنَدَةً إلَى أَحَدِ مُقاتِلِي جَيْشِ عَلِيٍّ قالَ:
“نَظَرْتُ إلَى خِباءِ عائِشَةَ يَوْمَ الْجَمَلِ فَرَأَيْتُهُ كَالْقُنْفُذِ، لَكَثْرَةِ ما وَقَعَ فيهِ مِنَ النِّبالِ، فَقالَ لَهُ صاحِبُهُ: وَماذا فَعَلْتَ أَنْتَ؟ قالَ: كانَتْ مَعِي عِدَّةُ سِهامٍ رَمَيْتُها ولا أدْرِي ما صَنَعَتْ”.
قُتِلَ الزِّبَيرُ وَطَلْحَةُ، وَأُسِرَتْ عائِشَةُ وَسُيِّرَتْ إلَى الْمَدينَةِ.
وَبَعْدُ.
هَذِهِ عائِشَةُ أمُّ الْمُؤْمنينَ قاوَمَتِ الظُّلْمَ، وحارَبَتْ بِجَيشِها في سَبيلِ الْحُرِّيَّةِ. وَهِيَ أوَّلُ امْرَأَةٍ عَرَبِيَّةٍ تَقودُ جيشًا يَطْلُبُ الْحُرِّيَةَ وَكَسْرِ الظُّلْمِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق