الرئيسيةشعر وشعراء

فتاة المعبد / بقلم شيخ الشعراء كامل النورسي

في لـيـلـةٍ لـيـلاء كُـنـت بِـمُـفــردي … في صحبةِ الليل الطويل بمعبدي
جــاءت تُـسـائـلني بِـوجـهٍ شــاحبٍ … حسناءُ في عُـمْـرِِ الهلالِ الأوردِ
وثِـيـابُـهـا بـالـكـادِ تـسـتـرُ جـسمها … والحـزنُ يملـؤها كحزنِ المُـبـعـدِ
وهُـنـاك جُـرحٌ غـائـرٌ في كـتـفـها … يـنـسـابُ في حِـقـدٍ بطولِ الساعِـدِ
خـطـواتـهـا تـبـدو كسكرانٍ بــدى … في عـتـمـةِ اللـيــلِ البهـيـم الأسودِ
وعـيـونهـا تـشْكو تباريح الـجـوى … والقلبُ يرجفُ مِن ضياعِ الموعدِ
فَـخَـلَـعْـت مشدوهًا عليها مِعطفي … وصـحـبـتها كالطفلِ قـربَ الموقدِ
فَـبـدأتُ أســـألُ هـاتـفي بِـحـرارةٍ … خـوفًــا عـلـيهـا قـد نسيتُ ترددي
جـاء الـطـبـيـبُ كأنـه في قبضتي … فأراحـني وأراح جـرحُا في اليـدِ
نَـظـرت إليَّ كـأنهـا ارتاحـت لَـنا … وأراحَـهـا عـيـشي بِـطُهـرالمعبـدِ
مِـن بـعـدها نـامـت ونـامَ أنـيـنُـها … مِـن غــير آلامٍ وغــيـرِ تَـسَــهُّــدِ
فَـبـدأتُ أرقُـبـهـا بِـنـظــرةٍ حـائرٍ … مُـتـخـوفًــا مِـمّـا سـيـأتي في الغدِ
مطلـوبةٌ هـذي الـفـتـاة لأهـلها ؟! … مـنـكــوبةٌ مِن دهْـرِهـا المُـتـشرِّدِ
ماذا عـسـايَ فـاعلٌ في أمرها ؟! … مـاذا سـأفـعـل يـا إلهي الواحـدِ؟!
فجلستُ في حضنِ الأريكةِ ساهمًا … بـعــد الـصـلاة وبـعـد ليلٍ مُجْهِدِ
مِـن بـعــدهـا جـاء الصباحُ بِـنوره … مُـتـورِّد الـقـسـمـاتِ فـيه تورُّدي
فَـنـزلــتُ قـسـرًا للـمـديـنــةِ عَـلَّني … الــقـى جــوابًــا عـن فتاة المعبدِ
فرأيتُ في وسط المدينةِ جمْـعَـهـم … ما بـيـنَ حــانٍ مُـشْـفـقٍ ومُـنــدِّدِ
فلمحتُ في وسطِ الجموعِ مُـسـنَّـةً … تحـثـو الـتـرابَ بشعرها المُتجعِّدِ
وأمــامـهــا تـابــوت موتى فـارغ … بينَ الصراخِ على ضحًى مُتَـنَهِّدِ
فسألتها والـخــوف يُـدمي مهجتي … عَــن سِــرِّ نــوحٍ قـاتــلٍ مُـتَـجَدِّدِ
فـتـجاهَـلت شخصي كأني لم أكن … وتجاهلت ما كنت أحملُ في يدي
هـي مِـن فـتـاتي للعـجـوز إشارةً … قِـرْطٌ لَـهـا في شكلِ طـيرِ الهُدهُدِ
فـتـهـلَّــلت كـلُّ الـصـبـايـا حولها … وتَـبــادلـــت بَــســمـاتِـهـا بِـترُّدِد
حـاولــتُ مـعـرفةَ الأموروسِرِّها … مُـنـحاذقًــا كي لا بشكُّ بمقصدي
فرأيتُ شـيـخًـا جالسًا قد هَشَّ بي … فـوقَ الترابِ وفي الغبار الأَربّدِ
فَـدنـوتُ مـنـه بِـبـسـمــةٍ مُتسائلًا … عَـن ســرِّ نوحٍ في الملا مُتوطِّدِ
فَـأَجــابــنـي والـقهـر يملأُ قلبه : … قد صار (ليفي) مفتِيًا في المسجِدِ
فكظمتُ غيظي في المدينةِ مُجْبَرًا … ولبستُ ثوبَ تماسكي وتَجـلُّـدي
فَـرجَـعــتُ أقـصـدُ غابتي مُتـلهَّـفا … كالطير حــنَّ إلى (قليبِ الغرقدِ)
تابـعـتُ سـيـري نحوَ غابَتِيَ التي … بالحــبِّ تـرفلُ في جلالِ المسجدِ
فَـوصـلــتُ سـاحةَ معبدي مُتأمِّلًا … أجِـدُ الجـواب لـدى الفـتاة فأَهتدي
وفـتـحـتُ بابي واسترحتُ هُنَيْهَةً … في ظــلِّ بـيـتِـيَ يا لَطيبِ المرقـدِ
فَـلَـمحتُ في إحدى الزوايا رِِقعةً … فــانْـتـابَـني شــوقٌ لـهـا بِِــتَــزايـدِ
فـفـتـحـتُـهـا وقــرأت فيها جملةً … ( شكرًا جزيلًا لاحتضاني سيِّدي)
هجرت مرابع معبدي وتباعَدَت … خلفَ التلالِ وخلفَ ليلٍ سرمدي
فجلستُ وحدي والظنونُ تهزُّني … والقلبُ أضحى كالحسامِ المُجْردِ
ما عدتُ أحتملُ اعْتكافي طفلتي … أيـقـظــتِ آلامًــا غـفـت في العابدِ
قد كان عن هَـمِّ الحيـاةِ بِمَعْـزِلٍ … يـقضي الليالي في هُــدًى وتَهـجُّـدِ
أدخـلـتــه بـاب الـتـحـدي عنوةً … لِـيُـطـاردَ الـظــلٍــمَ الـذي لَـم يَرشُدِ
فالـدينُ أيـضًا أن تكونَ مقاومًا … لِـفــســـاد أخــلاقِ الـمـلا بِـتَـجَـرُّدِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق