مقالات

من اللغوس إلى التريند

بقلم : د.حماه الله ميابى

في عالم ما بعد الحداثة، لم تعد المكانة المعرفية ولا القيمة الثقافية شرطا للظهور والتأثير في الفضاء العام. لقد قلبت وسائل التواصل الاجتماعي معايير التأثير، فأصبح بإمكان أي شخص، مهما كان مستواه المعرفي أو توجهه الفكري، أن يخاطب الجماهير، ويوجه الرأي العام، بل وأن يصير قدوة في قضايا كبرى.

لقد حذر سقراط في محاورة فايدروس لأفلاطون من سلطة الكلام المنفصل عن العقل، وهو ما يتجلى اليوم في أنماط التعبير السائدة في وسائل التواصل، حيث لم يعد “اللوغوس” (الكلام العقلاني) هو وسيلة التأثير، بل الخطاب الجريئ الخادش للحياء أو الصادم للقيم، السطحي الصاخب أو المصحك.

لقد أدى هذا الانفلات إلى سقوط الحواجز التقليدية بين النخبة والعامة، وباتت المؤسسات (الجامعات، ومراكز بحث، والصحف والمجلات، ودور النشر) التي كانت هي الوسائط الحصرية للمعارف والثقافة مجرد عناوين عادية، إذ كل شخص يمتلك هاتفا ذكيا وحسابا على “افيسبوك” أو “تيك توك” أو “إنستغرام” يمكنه مخاطبة ملايين المتابعين.
لقد تحول المجتمع من نمط هرمي لنقل الثقافة إلى نمط أفقي، حيث تقل القيمة التأثيرية لرأي باحث مختص، عن رأي شخصي أو تجربة عابرة لشخص بلا تكوين ولا معارف، والمشكلة ليست فقط في الحرية التي وفرتها التكنولوجيا، بل في قابلية الجماهير لاستهلاك التافه وتقبله.

وهكذا أصبحت معايير الشهرة والانتشار خاضعة للجرأة وقابلية المشاركة والصخب والسطحية والإلهاء والترفيه، لا العمق أو الجودة أو المعايير الأكاديمية.

الخطير في الظاهرة ليس فقط في تهميش النخبة، بل في ما تخلقه من نماذج ناجحة بمعيير شهرة هذه الوسائل. فحين يتحول السطحي إلى ناجح، يفقد الشباب الثقة في مسارات التعليم الطويلة والتكوين القاسي والتأمل العقلاني.

ومع كل ذلك فإن المشكلة لا تكمن في وسائل التواصل الاجتماعي ذاتها، بل في المنظومة القيمية التي تحكم استخدامها. والمطلوب اليوم ليس الدعوة إلى إقصاء المؤثرين، بل إلى إعادة الاعتبار للمعرفة، والنقد، والحوار الهادئ.
علينا أن نعيد تشكيل الذوق الجماهيري، لا عبر الوعظ، بل بوسائل جديدة تنافس التافه بلغته، ولكن بأدوات عقلية وتربوية تحدث الأثر في العمق.
د.حماه الله ميابى

إغلاق