ثقافه وفكر حر

ضياع ” قصة قصيرة بقلم / وسيلة الحلبي

صرخ ناصر بأعلا صوته …

ليلى. ليلى.. أختي.. اختي
فلم يسمع سوى صدى صوته يصدح في المكان وبدأ يتمتم بكلمات غير مفهومة من شدة الصدمة.
كان هذا المشهد المؤلم والقاسي حين دقت الحرب اجراسها معلنة خراب الديار وفقدان الأهل، والاحباب والتشرد والضياع.
حيث نعق البوم الجاثم فوق صدر الأوطان الامنة والبيوت السعيدة والنفوس المطمئنة وجال الآثمون وصالوا فيها ولم يتركوا أخضرا إلا وأحرقوه.. ورجالا إلا قتلوهم.. وشبابا وإلا اختطفوهم وأسروهم وأطفالا إلا وعذبوهم وغسلوا أدمغتهم وساقوهم إليهم.
قصفت القرية الآمنة، تبعثرت الأشلاء هنا وهناك وتطايرت كالعصافير، فجأة سمع دوي انفجارات صمت لها الآذان، هرب من هرب ونجا من نجا واستشهد من استشهد.. أصوات غوغائية في كل مكان، ماذا حدث؟ وما هذا؟ وذاك؟
بعد ذهاب الأوباش من المكان خيم هدوء قاتل وصمت مخيف في المكان، كان ناصر مختبئا تحت السرير يرتجف خوفا، وحين هدأ المكان خرج يزحف على بطنه، يلتفت يمينا ويسارا يستكشف المكان بعد أن صار مسرحا للظلم والعدوان.
بحث عن أخته ليلى ولم يجدها وبدأ يكتئب ويبكي ويصرخ بأعلا صوته أختي ليلى.. أختي أين أنت؟ ولم يسمع سوى صدى صوته مجلجلا دون فائدة.

ازداد خوفه، وانهمرت دموعه كالمطر وضاق صدره وبحث بين الموتى والجرحى والجثث هنا وهناك فلم يجد لها أثر، ولا يدري بنفسه كيف نام على أكوام من الرمل والحجارة، تحسس من بجانبه فإذا هي ساق مبتورة لأحد المصابين بالغارة فزع فزعا شديدا وقام مسرعا وهو ينتفض من شدة الخوف، ولكن إلى أين يذهب في هذا الليل الدامس.
كان يهمس ببعض الأوراد وآيات القرآن الكريم عله يأنس وما إن انبثق الفجر حتى قام يتفقد الأشلاء المبعثرة على الأرض هنا وهناك وسمع صوت سيارات الإسعاف وامتلأ المكان بالشرطة والمسعفين فقام بسرعة واتجه صوبهم وهو ينادي ليلى أختي أين أنت، فلم يلتفت له أحد،
الجميع مشغول بما حدث وبسحب الجثث وإنقاذ من هو في الرمق الأخير.
بكى بكاء طويلا، وبدأ خوفه من المجهول يسيطر على عقله وتفكيره حاول الابتعاد عن أماكن الصراع، تعذب كثيرا ونام في العراء
والتحف السماء وكان ينادي دائما بأعلا صوته: أختي حبيبتي ليلى أين انت؟
ولا من مجيب.
ومرت السنوات كئيبة قاتمة السواد. كانت تمر يوميا قوافل الشهداء والقتلى والجرحى أمام عينيه ونظره شاخص يتفقدهم واحدا تلو الآخر. وكان يهمس في صمت وحزن كبيرين هذا أعرفه. وهذا جارنا وتلك ابنته، وهذا صديق وتلك لا أعرفها. ويبكي بكاء مرا وينادي أين أنت يا أختي؟
لم يبق من العائلة غيره وغير اخته. ولكن أين سيجدها، وردد سأظل أبحث عنك حتى أجدك يا اختي.
تكاثرت الهموم عليه وجثمت كالجبل فوق ظهره النحيف. ضاع بيته وضاعت أرضه وضاعت أخته وضاع ثلاث سنوات من البحث العقيم دون فائدة، كم هو مسكين ومكتئب، الخوف يسيطر عليه من كل جانب، يخاف أن يقع في أيدي الظالمين فيفعلوا به مثل ما فعلوه بشباب القرية.
غادر عدد من أصدقائه وبقي ناصر في وطنه يتنقل من قرية إلى قرية ومن
مدينة إلى مدينة، متخفيا أحيانا وظاهرا أحيانا أخرى، وكان كثير البكاء على فقدان أخته وبيته وعشيرته، يبكي وحدته وخوفه من القادم.
عمل ناصر ماسحا للسيارات وكان يسمع قصص القتل والخطف من راكبيها وكان يزداد خوفه حين يرى الخوف يرتسم على وجوههم ثم عمل عاملا في مطعم وكان يرتاده أناس مبعثرة شعورهم زائغي العيون صفر الشفاه وكان يخاف كثيرا حين ينام بين الكراسي، وكان صاحب المطعم يشفق عليه كثيرا،
وعلى حين غرة باغتت المطعم مجموعة مدججة بالسلاح هرب ناصر وهام على وجهه في الشوارع عدة أيام وجاع وتعب كثيرا، وتنقل من مكان لآخر يبحث عن عمل فالتقى أحد الأشخاص في أحد الشوارع يمسح أحذية، فجلس بجانبه وأخبره
بقصته فأشفق عليه ماسح الأحذية وبدأ يعلمه مسح الأحذية ليساعده في ذلك مقابل بضع ليرات، فبدأ يعمل بصمت ويسأل الناس عن أخته ويردد أوصافها لعلهم يعرفونها أو التقوا بها في أحد الأماكن والشوارع.
ومرت الأيام والشهور ثقيلة متعبة ونار البعد والفقد يحرق قلبه لم يجد الفرح طريقا إلى قلبه ولم يستسغ طعاما قط ولم يقف تفكيره عن أسرته وأخته المفقودة التي لا يعرف لها مصير، أفكار كثيرة تراوده.. هل أخذها الإرهابيون؟ ماذا فعلوا بها؟ هل عذبوها ضربوها قتلوها؟
ودموع حرى تجرح خديه ويردد بهمس:
أختي الصغيرة لا تتحمل كل هذه القسوة وكل هذا العذاب.. أختي أين أنت وماذا تفعلين؟ ثم علا صوته وهام في الطرقات ينادي ليلى.. ليلى.. أين أجدك يا قرة العين، أين أجدك يا صغيرتي، وكان كل من يسمعه يبحث معه عن أخته ويشفقون
لحاله، ويهدئون من روعه،
تعب ناصر من شدة البكاء والصراخ وأسند رأسه على حجر ونام تحت شجرة جافة، وفجأة صحا على صوت انفجار قوي اهتزت له الأركان ومع صراخ الناس واستغاثات البعض شاهد الدماء مبعثرة هنا وهناك وسمع صوت سيارات الإسعاف والشرطة، الجميع يصرخ، وهو يصرخ معهم والجميع يبحث بين الجرحى والجثث، وهو يبحث معهم، وبين الجموع الواقفة والشاردة والمتضررة
تسمرت عيناه فجأة وهو يرى طفلة صغيرة في عمر أخته وتشبهها كثيرا، وصرخ بأعلا صوته ليلى.. ليلى أختي ليلى
فسمعت صوته ونادت بأعلا صوتها من ينادي؟ فركض صوبها وأراد أن يضمها إلى صدره، ولكنها خافت منه وبدأت تصرخ، فتبين له أنها ليست أخته فنظر إليها طويلا وهمس ودمعه على وجنتيه يا الله كم تشبهي أختي. ليتك كنت ليلى لعادت لي الحياة.
وعاد للبكاء والبحث عنها في كل مكان. مشى طويلا إلى أن وجد حديقة لم يمر بها الإرهابيون فاستلقى على الأرض والتحف السماء ونام نوما عميقا حتى سمع صوت رجل يكلمه، فتح عينيه وإذا بشيخ وقور يسأله لماذا تنام هنا يا ولدي وأنت لازلت صغيرا، تنهد ناصر تنهيدة أحرقت كل ما حوله، ودمعت عيناه وهو يقول : أختي ليس لي في الدنيا سواها بعد أن فجر الإرهابيون القرية لم أجدها ولا زلت أبحث عنها.
فهون عليه الشيخ الوقور ودعاه أن يعيش عنده ثم يساعده في البحث عن أخته، فشكره ناصر واعتذر ناصر بأدب وقال: أنا ياعم اتنقل من مكان لآخر حتى أجد أختي. فمد الشيخ يده على جيبه وأعطاه بضع ليرات تسد رمقه ودعا له بملاقاتها.
عاد ناصر للبحث من جديد، حن الى بيته ومزرعته فذهب إلى هناك ورأى بعض سكان القرية عادوا إليها يتفقدوا بيوتهم، وسألهم عن أخته، فحزنوا عليه وعليها كثيرا، دخل البيت المتهدم وجلس على طرف حجر منه وسرح بأفكاره وبحياته مع أهله ، وذكرياته مع أخته سامية.
وجال في المكان وصال ثم عاد أدراجه للبحث عنها في كل مكان وفي طريقه مر على السوق الكبير عله يجد شيئا يأكله ويسد رمقه.
فاشترى سندويش فلافل بعد شم رائحتها الرائعة عن بعد، وأثناء تناوله الطعام انفجرت سيارة وسمع أصوات الناس وهي تصرخ وتهرب من المكان فهرب مع من هرب، وبنفس اللحظة دوى صوت ثلاثة انفجارات متكررة وصعدت ألسنة النيران إلى السماء وانهدمت الكثير من المحلات في السوق وجاءت سيارات الإسعاف وسيارات الأمن للمكان المنكوب، وتجمهر الناس يبحثون عن أولادهم وأهلهم والجميع يصرخ ويبكي.
وفي تلك الأثناء وبين الجموع ركضت فتاة تريد الاختباء وهي تبكي فلحق بها ناصر وقلبه يخفق بسرعة وناداها بأعلا صوته أختي ليلى، يا….. ليلى فاستدارت جهة الصوت وتسمرت في مكانها
ناصر هل هو ناصر؟ نعم نعم انه هو،
فركضت إليه وهي تردد ناصر. ناصر، وضمته وهي تبكي وضمها وهو يبكي. وغير مصدق أنه وجدها.
كان يقبلها كثيرا ويردد: لم أصدق يا أختي أنني وجدتك، الحمد لله أني وجدتك. ويبكيان معا والناس مشغولون بالجرحى وفجأة اهتز المكان مرة ثانية على صوت انفجارات ضخمة متتالية تناثرت على أثرها الأشلاء وانهدمت البيوت ولم يعد أحدا يرى أحد من لهيب النيران والدخان والغبار،
وبعد الهدوء اختفى ناصر وأخته، وحين البحث عن الجرحى والموتى تحت الأنقاض تم انتشال جثتيهما وأيديهما ملتفة حول خصريهما متعانقان والدماء تبللهما من كل صوب.

عضو الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب*
*عضو اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين
* سفيرة الإعلام العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق