مقالات
لحظات مع الأنوار الإلهية * هشاشة الإنسان * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية * عنوان السلسلة الجديدة: “في حضرة المعنى: رحلات في التأملات القرآنية” عنوان المقالة: “في بطون أمّهاتكم: تأمل في الهشاشة الكونية للإنسان” (12)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ (آل عمران: 6) بين ظلمة الرحم وظلال الغيب، كانت أولى محطات الإنسان درسًا بليغًا في الهشاشة الكونية. لم يأتِ الإنسان إلى هذه الدنيا صلبًا متينًا، بل بدأ رحلته نطفةً لا تُرى، تعيش في عالم لا ضوء فيه ولا هواء، في رحم أمٍ لا يملك لها ولا لنفسه حولًا ولا قوة. من هناك، من أعمق نقطة ضعف، تبدأ قصة الوجود.
– إنّ القرآن لا يكتفي بسرد خلق الإنسان بل يرسم خطًّا تأمليًّا يعيدنا إلى أصل هشاشتنا، ليكسر وهم القوة والسيطرة. ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ﴾ (المؤمنون: 12)، فكلّ ما يبدو بعد ذلك من عضلاتٍ وأموالٍ وسلطانٍ، ليس إلا غلافًا هشًّا يغطي حقيقة الإنسان الأولى: الضعف.
* ثلاث ظلمات… ومدد الغيب
﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ﴾ (الزمر: 6)، ظُلمة الرحم، وظلمة المشيمة، وظلمة البطن… ثلاث طبقات من العجز، لا تُرى بالعين، ولا يطرقها أحد.د، هناك كانت العناية الإلهية تكتب فصول النجاة والتكوين، بعيدًا عن كل ما يظنه الإنسان من أسباب.
– لم يملك الجنين غذاءه، ولا هواءه، ولا حتى اختيار شكله أو اسمه، فكلّ تفاصيله نُسجت بخيوط القدرة الإلهية الصرفة. هذه الحقيقة هي الأصل، وما عداها طارئ.
* الهشاشة… مدخل الإدراك الحقيقي
من يتأمل في بدء خلقه، تتبدد عنده أوهام التفوّق والغطرسة، فالذي لم يقدر على حمل نفسه قبل أن يُولد، كيف يتعالى على خالقه؟ ومن وُلد باكيًا، عاجزًا، محتاجًا، كيف يزهو بقوةٍ لا يملك منها شيئًا؟
– إنّ استحضار هشاشتنا الأولى ليس دعوة للانهزام، بل هو توطئة للتسليم العاقل، والإيمان المتجذّر. هو وعيٌ بأن القوة التي بين أيدينا اليوم، إنما هي فضلٌ من الله، لا حقّ مكتسب. وأنّ الخوف والضعف والفقر، ليست حالات طارئة، بل هي الأصل الإنساني الأول.
* عبرة البداية… وتواضع المصير
﴿أَلَمْ نَخْلُقكُم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ﴾ (المرسلات: 20)، هكذا يُذكّرنا القرآن دومًا: لستم آلهة صغيرة تسير على الأرض، أنتم كائنات هشة، لو تُركتم للحظة بلا عناية، لانتهى أمركم، لكن عظمة الإنسان لا تأتي من عضلاته ولا من عقله وحده، بل من اعترافه بضعفه، ومن لجوئه لخالقه في هذا الكون الشاسع.
– في بطون أمهاتنا، كُتب أول درس في التواضع، وفُتح أول باب نحو الحقيقة. وكلّما نسي الإنسان تلك البداية، غرق في وهم السيطرة حتى تهشّم على قارعة الأحداث.
* من الرحم إلى العالم… رحلة الاعتماد
ما بين الوجود في الرحم والظهور إلى النور، لا تتغير حقيقة الإنسان كثيرًا؛ ففي كلا الحالتين، هو محتاجٌ لمن يسنده، يولد الإنسان عاجزًا عن الحركة، عن الطعام، عن التعبير، عن الحماية، ويظلّ في سنواته الأولى مرآةً للهشاشة المستمرة. من يطعمه؟ من يدفئه؟ من يحمله في نومه وصحوِه؟ إنها سلسلة من الاعتماد الكلي، لا تنكسر إلا شيئًا فشيئًا، وبقدر ما تُغذّى بالعناية.
– هذه الرحلة من الرحم إلى الخارج، هي انتقال من هشاشة خفيّة إلى هشاشة ظاهرة، لكنها لا تقلّ ضعفًا. ولعلّ سرّ التربية الناجحة، أن يتذكّر الأبوان أنهم يسندون كائنًا هشًّا، لا أن يُعامل كما لو أنّه صلدٌ لا يُمسّ.
– فالوعي بالهشاشة لا ينبغي أن يقتصر على التأملات الفردية، بل يجب أن يتسرّب إلى فلسفة الرعاية، إلى نظرتنا للمجتمع، وإلى خطابنا مع الناس: كلّنا نبدأ ضعفاء، ونعيش في دوائر من الضعف المتكرّر، والمجتمع القويّ هو ذاك الذي يحسن حمل الضعفاء، لا الذي يسخر منهم.
* خاتمة: في الهشاشة سرّ البقاء
ليست الهشاشة ضعفًا يُستحى منه، بل هي الحقيقة التي تفتح أبواب العبودية الحقة. ومن رحم هذا الضعف، وبدافع هذا الإدراك، يولد إيمانٌ عميق، ويولد معه الإنسان الحقيقي: ذاك الذي لا يتعالى على الخلق، ولا يتطاول على الخالق، بل يسير متواضعًا في أرضٍ خُلق منها، متذكرًا أنه يومًا ما، كان شيئًا لا يُذكر ﴿هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾ (الإنسان:1)… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* غدًا إن شاء الله على موعدٍ مع سلسلة جديدة :
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2031)
* 29 . محرّم .1447 هـ
* الخميس . 24.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)

