مكتبة الأدب العربي و العالمي

انا والجوافة / عمر عبد الرحمن نمر

قدّر الله أني عملت فترة من الزمن في بلدة فلامية، وفلامية بلدة جميلة… فيها الحكايات التراثية الجميلة، والينابيع الجميلة… والحمضيات الجميلة… وبالأخص الجوافا الجميلة… نعم، هي فلامية، أم الجمال، الجمال بأهلها، وأرضها، وأشجارها، وجوافاها.
أذكر فلامية عندما أشتم رائحة الجوافا،
في صباح ذاك اليوم الخريفي، كنت أتجول في شارعها الرئيس، وعن يميني أشجار الحمضيات، وعن شمالي أشجار الحمضيات، والأشجار كلها تسبح في بحر الندى، والفضا عبق برائحة الجوافا العطرة… ياه! لوحة جميلة جداً، عندما تعوج إلى إحدى الناحيتيْن اليمنى أو اليسرى، فأنت توظف أكثر من حاسة في الوقت ذاته، توظف حاسة البصر، وأنت ترى الثمار الذهبية دانية تتدلى من أغصانها، وتشتم عطر الجوافا الذي يدخل رئتيْك دون استئذان، وعندما تناولت حبّة الجوافا عن الأرض، كانت حبّة كبيرة، استثقلها الغصن، فتمردت عليه، وتحررت منه، فسقطت تحت الشجرة، ملساء، مبللة بالندى… وما أن تذوقتها حتى سال الشهد منها، حلاوة لا تضاهيها حلاوة… ما شاء الله…!
وسمعت صوتاً هامساً تداخل مع أصوات العصافير الفلامية، نظرت حولي، فارتجّ عليّ، ووقفت بلع الجوافا، يا فضيحتي، ها هو صاحب البستان، يدخل بستانه، يتفقده، ويلقي القبض عليّ، متلبساً بقرط جوافته… يا للهول…! ولم تطل الخوفة، سلّم الرجل علي، وقال: ألف… ألف صحة… فكرت في نفسي: ربما هي مقدمة للبهدلة والشرشحة… وقال: الحقني… وما كان لي خيار آخر… لحقته من شجرة إلى أخرى… ومن بيّارة إلى أخرى… حتى غدونا في واحدة من البيّارات التي تظلل أشجارها المكان كله… أجلسني على الأرض… وبدأ يقطف لي مما انتخب من الثمار، ويقول: ذوق هاي، وأنا أتذوق، ثم يأتي بغيرها: ذوق هاي، وذوق هاي… وكلما أتت ثمرة حيّت أختها وأكبرتها… حتى حمدت الله، وشكرت الرجل وأكبرته… وهممت بالخروج إلى عملي، فأنا جئت للبلدة كي أعمل، ولم آت لأتنزه في بيارات الأكارم، وأعمل (خَرَمَنْجِيّاً) أتذوق الثمار… فصاح الرجل: وين؟ قلت: خارجاً إلى العمل. قال: هو دخول الحمام مثل طلوعه… وأسقط في يدي، ماذا قصد الرجل؟ وأنقذني من صعوبة فهمي: يا رجل، لقّطْ لك شرحة جوافا للعيال، فأرضكم لا تنبت الجوافا… اعترضت جادّا: لا… لا يا رجل… يخلف عليك، ما بصير هيك… الله يبارك بك وبعيالك… ريتو عمار يا رب… والله يطرح البركة فيك، وفي بيارتك… قال: طيب، مع السلامة، متى تغادر البلدة؟ قلت: عصراً… وفي العصر كانت المفاجأة… الرجل ينتظرني على رصيف الشارع، وبجانبه شرحة الجوافا… يا إلهي! ما هذا؟ تفاجأت، لكنها مفاجأة جميلة… خجلت وأنا أحملها، لكن كرم الرجال الذي امتزج بشكري وتقديري وامتناني غطّى على خجلي…
قلت في نفسي، وما زلت أقول: بلاد خير، وأهلها خيّرون… إنهم فلسطينيون… وإنها جوافا فلسطينية…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق