أين تكمن أولويات المشروع الوطني؟ السؤال الذي يجب أن يعيد ترتيب أفكارنا، ويجبرنا على إعادة النظر في نسق الواقع، والبحث عن الخروج من المعضلات التي نواجهها. من المؤكد أن ثمة حاجة ماسة لإعادة التفكير فيما نمر به، سيما أننا بعد قرابة ثلاثين عاماً من عملية السلام وربع قرن من عمر السلطة فإن المنجز الذي تحقق لم يكن بقدر المأمول، ناهيك عن مقارنة كل ذلك بطموحات الثائرين الأوائل حين خطّوا بيان «العاصفة»، ومن الراجح أن ثمة ظروفاً أكثر وحشية مما كان يتخيل الجميع، كان لها دور كبير في تعثر الحلم. ومع هذا فإن الكثير الذي يجب أن يقال عن إخفاقات ونكسات وتراجعات وربما سوء تقدير في بعض المواقف.
يمكن لجردة حساب طويلة أن تفرحنا في بعض الأحيان وأن تحزننا في بعضها الآخر. لكن المؤكد أن النهاية ليست كما أراد أبطال الحكاية، وربما من حسن حظنا أن الزمن يجعل الأشياء ممكنة، لكن من سوئه أيضاً أننا ورثة حلم كبير يقتضي الحفاظ عليه تضحيات ومعاناة. وبقدر إصرارنا على مواصلة الطريق بقدر عثراتنا في تخطي الصعاب التي تواجهنا خلال السير فيه. إن جردة الحساب ستقول لنا أشياء كثيرة تحققت وكان إنجازها جزءاً من بقائنا على قيد الحياة وبقاء قضيتنا الوطنية على الطاولة، ولم تصبح مجرد ملف مهمل لمجموعة بشرية انقرضت من التاريخ، بل ظلت حاضرة. وإن هذا الحضور لم يكن ليتحقق لولا التضحيات الكبيرة التي تم تقديمها والتي عبرها ظلت فلسطين على الطاولة. وربما أن الثوار الأوائل فهموا الدرس جيداً وهم الشبان الذي دفنوا أحلام مقتبل العمر تحت مخداتهم حين تم إجبارهم على الرحيل من الفردوس الذي كانوا يعيشون فيه قبل النكبة. كانوا يعرفون أن الغاية النهائية لمشروع سرقة فلسطين لا أن تبقى فلسطين ولا أن يبقى الفلسطينيون، بل أن يبددوا، وأن يختفوا عن الوجود. لذا فإن ما تم خلال جرائم النكبة لم يكن ترحيلاً ولا «ترانسفير» مجردَين، بل كان فعل تطهير يقصد إلى عملية محو كامل يتم خلالها إفراغ الأرض من الإنسان ومن حكاياته وارتباطه العاطفي فيها.
لم تكن هذه المسألة بالبسيطة. لأن أحداً منا لم يكن له أن يوجد ويحافظ على فلسطينيته بعد أكثر من سبعة عقود. وإن المجرمين الأوائل الذين لاحقوا الشيوخ والأطفال والنسوة الحوامل بالبواريد والمتفجرات حتى يجبروهم على إخلاء بيوتهم، ما كانوا ليتصوروا أن أحد أنسال هؤلاء سيعاود سرد الحكاية التي تنتهي بأحقيته بالأرض وبالبيت وبإصراره على العودة إليهما. هكذا لم يكن ما تم من حفاظ على هذا الوجود والحفاظ على الحكاية وحكايتها من النسيان أمراً هيناً. وحين يعود حفيد الحفيد ليسأل عن البيت في يافا، فإن هذا يعني أن كل عمليات التطهير والإحلال والمحو قد فشلت وأن ثمة حساباً كبيراً لم يسو بعد.
ومع هذا يظل الشطر الآخر من هذه التسوية موسوماً بالإجابة عن السؤال المقلق: هل حقاً هذا ما نريد؟ لا أحد يمكن له أن يجيب إجابة صحيحة حول ما الذي كان يمكن أن يتحقق، ولكنه لم يتحقق لأن ثمة افتراضاً شرطياً لا يمكن أن يتم الجزم بوجاهته، لأن هذا ينافي المنطق إلا عند الطوباويين. وربما السياسة لا تعرف هؤلاء حقاً. عموماً تظل ثمة حاجة للإجابة عن التساؤل حول الواقع الذي وصلنا إليه، واقع يصعب معه قياس مدى النجاح لأن النجاح يبدو ضئيلاً وفق معايير محددة. ومع هذا فإن المؤكد أنه بالقدر الذي حافظنا على وجودنا إلا أننا لم ننجزه بشكل لائق.
من هنا كان البعض يفرق بين العودة إلى الوطن والرجوع إليه بوصف الأول تحقيقاً لنبوءة سياسية وليس مجرد فعل ينتقل فيه الإنسان من مكان لآخر. عموماً فإن جردة الحساب ستعكس فشل أوسلو مثلاً وتعيد السؤال البديهي: هل كانت أوسلو خطأ من الأساس؟ هل ثمة سوء تقدير في الذهاب لمفاوضات السلام مع إسرائيل؟ وإذا كانت الإجابة بنعم التي يفضلها البعض، فما هي الخيارات التي كانت متاحة ولم يتم توظيفها؟ وهل كان يمكن نزع القرار بالشروع في عملية السلام من سياق التحولات الكبرى التي ضربت العالم من تفكك المنظومة الاشتراكية (تراجع في معسكر الأصدقاء) وتصدع الجبهة العربية بعد حرب الخليج الأولى. ولكن أيضاً لماذا كل هذه التحولات تصيبنا نحن ولا تمس عدونا؟ وهذا سؤال مشروع. مثلاً لماذا علينا نحن أن نتكيف مع الشرعية الدولية والقانون الدولي والقرارات التي يمكن لطفلتي «يافا» أن تقول إنها ظالمة بحقنا وبحق حقوقنا؟ لماذا لم يقم العدو بالتقدم خطوة واحدة في هذا الاتجاه.
يبدو هذا النقاش مهماً ونحن نواجه استمرار انغلاق أفق أي عملية تسوية. ومع هذا فثمة حاجة للتفريق بين السلطة كمنجز وطني وجزء من استمرار وجودنا على هذه الأرض عبر كيانيتنا الخاصة وبين الدعاوي السوداوية التي ترى كل شيء في مصلحة الاحتلال في تقزيم كبير للجهود الذاتية. شتان شتان.
ورغم ذلك، فإن المؤكد أن بقاء الشعب الفلسطيني حياً ومتفاعلاً وممسكاً بحكايته وبحقه في استرداد أرضه هو الشيء الأهم في جردة الحساب تلك، وإن الكيانية الفلسطينية مهما تضاءل حجمها هي الحامية لحقيقة الوجود المباشر على الأرض وإن السعي لتطويرها يجب أن يكون الهدف الأسمى للمشروع الوطني. فجوهر هذا المشروع هي حقيقة أن الشعب الفلسطيني لم ينته وأنه موجود وسيواصل وجوده مهما تعاظمت قوة الاحتلال ومهما زادت جرائمه بشاعة. إن قوة على وجه الأرض لن تفلح في إقناع طفل فلسطيني بأن فلسطين ليست له. وهذه حقيقة لم تدحض وتفشل مزاعم وطموحات المشروع الصهيوني، بل دللت على شيء واحد هو أن هذا الشعب الذي عليه أن يواجه الجوائح والمصائب أعزل لا يملك خياراً آخر إلا البقاء.