مقالات
المقارنة، الديون، المظاهر، والخصوصية المفقودة في مجتمعنا العربي

في مجتمعنا اليوم، ، أصبحنا أسرى صور مزيفة وحياة مفبركة. البيوت الكبيرة والسيارات الفاخرة والرحلات الباذخة لم تعد رفاهية، بل معيارًا اجتماعيًا قسريًا. كل منشور على الفيسبوك، كل صورة تُعرض على انستغرام، أصبحت مرآة كاذبة تقيس قيمة الإنسان بما يملك، لا بما هو عليه.
الخصوصية؟ انتهت منذ زمن. البيوت مشرعة الأبواب والنوافذ، والجميع يعرف ما بداخلها قبل أن نعلن نحن عنه. صور الإفطار، غرف النوم، السيارات الجديدة، الرحلات، وحتى الخلافات العائلية الصغيرة أصبحت مادة للتباهي على وسائل التواصل الاجتماعي. العنف النفسي، الترهيب الاجتماعي، والخوف من الفشل أصبحوا جزءًا من حياة كل فرد، وكل هذا تحت مظلة “الظهور بالمظهر المثالي”
الأطفال يتعلمون منذ الصغر أن المظاهر أهم من الجوهر، والمراهقون يظنون أن النجاح يقاس بعدد الإعجابات والتعليقات. كل هذه المقارنات تُرغم الإنسان على الدخول في سباق لا نهاية له، سباق يثقل القلب بالديون، ويرسخ شعور النقص والفشل النفسي، حتى أصبح العنف والترهيب أدوات للحفاظ على “المكانة الاجتماعية”.
الديون ليست مجرد أرقام، بل سلاسل تُقيد الإنسان داخليًا قبل أن تقيده خارجيًا. الهوس بالمظاهر يجعل الفرد يعيش حياة مزيفة، بينما الواقع مليء بالخوف، الفراغ النفسي، والإجهاد الاجتماعي. مجتمعنا اليوم يعاني من فقدان وعي جمعي وتربوي، وتراجع القيم الأخلاقية والدينية، وهو ما يضاعف الشعور بالضياع والاغتراب داخل بيته وبين أسرته.
من الناحية التربوية، الخطر أكبر: الأجيال الجديدة تتربى على الانبهار بالمظاهر، والمراهقون يظنون أن النجاح يقاس بالمال أو بما يُعرض على الآخرين. التفوق الدراسي، الأخلاق الحميدة، القيم الدينية، والأمان النفسي تُهمش أمام سباق الظهور والتباهي
أما من الناحية الدينية، فالرضا بالقليل والقناعة، وتجنب الإسراف والدخول في الديون بلا ضرورة، كلها قيم أساسية. يقول الله تعالى: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). الدين يعلمنا أن السعادة ليست في المظاهر، بل في القيم، الرضا، والسلام الداخلي. كل شخص مسؤول عن نفسه قبل أن يكون مسؤولًا عن كيف يراه الآخرون.
الحلول: الطريق إلى وعي حقيقي
1. تربية أسرية واعية: تعليم الأطفال أن القيم أهم من المظاهر، وأن النجاح الحقيقي يُقاس بما نحققه داخليًا وليس بما نعرضه على الآخرين.
2. تربية مالية: تجنب القروض والديون إلا للضروريات، وتعليم الشباب إدارة الموارد المالية بوعي.
3. الحد من التباهي على وسائل التواصل الاجتماعي: الاستخدام الواعي للفيسبوك والانستغرام، وتذكير الشباب أن الصور لا تعكس الواقع.
4. تعزيز القيم الدينية: القناعة، الرضا، وعدم مقارنة النفس بالآخرين، وأن كل رزق مقدر من الله.
5. التربية النفسية: الحفاظ على الخصوصية، حماية النفس من الضغوط الاجتماعية، وإعادة تعريف القوة الحقيقية بأنها ما نحتفظ به داخلنا، بعيدًا عن أعين الآخرين.
6. برامج مجتمعية للتوعية: ورش عمل وحملات تثقيفية لتعزيز القيم الاجتماعية والاقتصادية، وفضح خطورة الهوس بالمظاهر والديون.
حين يدمج المجتمع التربية الصحيحة، القيم الدينية، والوعي النفسي، سيصبح قادراً على كسر دائرة المقارنات والمظاهر الزائفة والديون، ويعيش أفراده حياة حقيقية، مستقرة، وسعيدة، بعيدًا عن العنف، الترهيب، والغشاوة الاجتماعية.
الوعي الداخلي هو الثورة الحقيقية: أن نعيش حياةً لا يقودها الفيسبوك، ولا تحكمها المظاهر، ولا تثقلها الديون، بل حياة يملؤها السلام الداخلي والرضا الحقيقي
السعادة لم تكن يومًا فيما يملكه الآخرون، ولا فيما نعرضه على أعينهم، بل فيما نحمله داخلنا من رضا، قيم، وسلام داخلي. لنحرر حياتنا من قيود المظاهر والمقارنات، ونكتشف أن الحرية الحقيقية تبدأ من داخلنا.
دمتم سالمين

