مقالات

حكم مسبق قصة مليبارية ترجمها أ.د.عبد الحفيظ الندوي

ترويها المعلّمة ميني شريان
كنت أُدرّسُ الصف العاشر، وأتحمّل مسؤولية الفصل في مدرسة حكومية. في أحد الأيام، استدعتني المديرة، ونظرت إليّ بعينين متردّدتين وقالت: “هناك طلب تسجيل جديد للصف العاشر. الطالب عمره ثمانية عشر عامًا، وقد طُرد من خمس مدارس سابقة بسبب سلوكه المشاغب. هذه هي المدرسة السادسة له. هل أنتِ مستعدة لتحمّل هذه المجازفة؟”
شدّ كلامها قلبي، لكنني لم أتردّد. لم أتعلم يومًا معنى الهزيمة. كان قلبي يهمس: “لن أهزم… لن أهزم.”
كانت مدرستنا غريبة الأطوار. مبناها على شكل حرف “U”،
وجناحاه يُطلق عليهما الطلاب “كارغيل” و”باكستان” بسبب شدّة الشغب فيهما. كان المعلمون يتجنبون المرور في تلك الممرات، لكنني كنت أتجول فيها أحيانًا دون خوف. عندما علم الطلاب أنني من شالاكودي، أخذ أحدهم يغنّي مازحًا: “إلى سوق شالاكودي ذهبتُ فرأيتُ بائعة السمك.” ناديته يومًا وقلت له بابتسامة: “يا بني، لديك موهبة في الغناء. عليك أن تُنشِد لي أغنية كل يوم.” منذ ذلك الحين، نال احترامي، وصار يحترمني احترامًا عظيمًا، وتبعه بقية الطلاب. بل إنه كان يدافع عني ويضرب من لا يحترمني.
وفي تلك الأجواء، جاء “برينس” (اسم مستعار)، المقاتل الجديد. أعلن للمديرة استعدادي لقبول التحدّي، وهكذا صار “برينس” مسؤوليتي. كان والده، رجل بسيط المظهر ووجهه حزين، ينتظر في الخارج. عندما دخلتُ الصفّ مع “برينس”، تطلعت إليّ إحدى التلميذات بعينيها وكأنها تسأل: “لماذا أحضرتِ لنا هذا المشاكس؟” تنفستُ بعمق، قدّمته لزملائه، وعيّنت له مقعدًا، ثم واصلت درسي.
مع مرور الأيام، بدأ “برينس” يختبر صبري. كان يلهو أثناء الدرس، ويخربش على الطاولات والجدران، ويزعج طلاب الفصول الأخرى. وصلتني شكاوى عديدة عنه، إلى أن جاءني زميله “صمد” (اسم مستعار) وهمس في أذني: “أستاذة، سمعت في بيتنا أنه يبيع الحشيش في السوق.” ارتجف قلبي، لكنني لم أصدق الشائعات. قررتُ التحقق بنفسي.
استدعيته وسألته بصرامة عن وجهته بعد دوام المدرسة. أجاب ببرود: “أذهب لأشتري بعض الأغراض من الدكّان.” أجبتُ بلهجة حادة: “غدًا سأكون في السوق، وإياك أن أراك في أي متجر! بعد المدرسة، عليك العودة إلى المنزل والمذاكرة. غدًا، أحضِر والدك، لدي كلام مهم معه.” أجاب بلا اهتمام: “سآتي به إن وافق.” غضبتُ، لكنني لم أظهر له شيئًا.
في غرفة المعلمين، أخبرت زملائي بما حدث، لكنهم تخلّوا عني قائلين: “أنتِ من تحملت المجازفة، فالتصرف لكِ.” عندها أدركت خطورة المسؤولية التي حملتها على عاتقي. أخبرت المديرة، فقالت: “ليأتِ والده، ونتحدث معه.”
في الصباح، جاء والده. كان وجهه يحمل همّ سنوات من الطواف على المدارس. قبل أن أتحدث، سبقتني كلماته: “أستاذة، في شبابي ارتكبتُ أكثر مما ارتكب ابني. طُردت من المدرسة وأنا في الصف التاسع. أرجوكِ، لا تطردي ابني. ليس لي ولد غيره. أمه مقعدة منذ ولادته، ولم أستطع أن أعتني به كما يجب. أبقيه في المدرسة حتى نهاية الصف العاشر، بعدها سأرسله إلى الخليج ليعمل وإلا سيضيع.” كانت دموعه تنهمر، ولم أجد ما أقوله. وعدتُه بأنني لن أطرد ابنه أبدًا.
ولأن بيتي كان قريبًا من السوق، ذهبتُ في ذلك المساء لأراقب “برينس”. رأيته يدخل بقالة، ثم مكتبة، ثم صيدلية. دخلت الصيدلية بعده وسألت الصيدلي، وهو صديق لي: “هل تعرف الفتى الذي خرج الآن؟” أجاب: “إنه ابن كرياكوس.” سألت: “وماذا اشترى؟” أجاب: “أمه مريضة طريحة الفراش، وقد اشترى لها الدواء.” ثم أضاف: “والده عامل أجير، وليس له عمل ثابت. ليس له أبناء غيره، وأمه أصيبت بالشلل بعد ولادته.”
خرجتُ من الصيدلية وأنا أشعر بالخجل من نفسي. جئتُ لأكشف بائع حشيش، فإذا بي أكتشف ابنًا بارًا يشتري دواء لأمه المريضة!
منذ تلك الليلة، تغيرت حياتي وطريقتي في التدريس. لم أعد المعلمة الصارمة. في اليوم التالي، ذهبت مع “برينس” إلى بيته. كان بيتًا صغيرًا منحه لهم البلدية. في غرفة المعيشة، رأيت أمه على سرير ضيق، لا تتحرك إلا عيناها. امتلأت عيناي بالدموع. أعددت الشاي بنفسي، ورأيت “برينس” يطعم أمه بملعقة. لم أستطع أن أكمل شرب الشاي.
عندما خرجنا، قال لي: “أستاذة، ليس عندي ذكاء في الدراسة. كلما حاولت الحفظ أنسى. والجميع يحمّلني مسؤولية كل شغب في المدرسة، حتى لو لم أفعله. أبي يفرّغ حزنه بسبب مرض أمي في ضربي. لقد توقفت عن الدفاع عن نفسي. قبل أيام، قال لنا الطبيب إن أمي لن تعيش طويلاً. منذ ذلك الحين، وأنا أعد اللحظات بانتظار رحيلها… أخاف يا أستاذة… أخاف كثيرًا.” كانت دموعه تنهمر. للمرة الأولى، رأيت فيه طفلاً بريئًا، لا مشاغبًا. لم أقل شيئًا، بل بكيتُ معه.
منذ ذلك اليوم، صار يجلس بجانبي في الصف. لم أثقل عليه بالدروس، بل كنت أكلمه وأستمع إليه. تحدثنا عن الأفلام والأغاني، ثم عن السحر والمخدرات. شيئًا فشيئًا، جعلته يقرأ ويهتم بالكلمات دون أن يشعر.
حين جاءت الامتحانات التجريبية، رفض أن يكتب، لكنه حضر في النهاية الامتحان الرسمي لأني أصررت عليه. قال لي: “سأرسب.” فأجبته: “لا بأس أن ترسب في الامتحان، لكنني واثقة أنك لن ترسب في الحياة.”
بعد الامتحان، ماتت أمه. بكى أمامي قائلاً: “الآن لم يعد عندي من أخاف عليه.” رسب “برينس” بالفعل. سخر بعض المعلمين مني: “كنتِ تجهدين نفسك معه، وماذا كانت النتيجة؟” لكنني ابتسمت فقط. لم يعرفوا ما الذي غيرته أنا في حياته.
بعد عامين، عاد في إجازة، وجاءني مع أبيه، فرحين مسرورين. أهداني قلمًا من نوع “باركر” وقال بخجل: “هذا مني لكِ. فكّرتُ ماذا أشتري لكِ، فتذكّرت أنك تكتبين دائمًا، فأردت أن أهديك شيئًا تكتبين به. إنه عربون وفاء لأنك لم تتخلّي عني.”
هذا الموقف ما زال يملأ عيني بالدموع كلما تذكرته. أنا أوبّخ تلاميذي، وأحبّهم، وأتمنى لهم الخير، لكنني لم أتعلق بأحد كما تعلقتُ به. أدعو الله أن يوفّقهم جميعًا في حياتهم.

إغلاق