مقالات

رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة “الأزمات النفسية في العصر الحديث” (5)

* الصبر والأمل: مفاتيح الثبات أمام الشدائد

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

لا تخلو حياة الإنسان من الابتلاءات، فهي جزء من سُننِ الله في الكون، ووسيلة لاختبار الإيمان واليقين، وقد جعل الله الصبر والأمل رُكنَين أساسيين للثبات أمام المِحن، فبهما يستطيع الإنسان مواجهة الحياة بثبات دون أن يستسلم لليأس أو الانهيار.

* الصبر: درع المؤمن في وجه المحن
يُعَد الصبر أحد أعظم الفضائل التي أوْصى بها الإسلام، فهو زاد المؤمن في الأوقات الصعبة، وقد ورد ذكر الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعًا، مما يدل على مكانته العظيمة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا ٱصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200)، والصبر لا يعني فقط تحمل الأذى، بل يشمل القدرة على ضبط النفس في مواجهة المصاعب، وعدم التسرُّع في اتخاذ قرارات قد تزيد من حجم الأزمة، وهناك أنواع متعددة للصبر، منها:

1- الصبر على الطاعة:
فالمؤمن يحتاج إلى مجاهدة النفس للثبات على الطاعات وأداء الفرائض، خاصة عند الفتور.

2- الصبر عن المعصية:
إذ يتطلب مقاومة الأهواء والإغراءات قوة داخلية مؤثّرة تكبح جماحها

3- الصبر على البلاء:
وهو الأشد تأثيرًا، حيث يواجه الإنسان المصائب باقتدارٍ وطمأنينة واحتساب، وقد ضرب الأنبياء والصالحون أعظم الأمثلة في الصبر، فالنبي أيوب (عليه السلام) صبر على المرض سنين طويلة دون أن يفقد ثقته في الله، والنبي يعقوب عليه السلام صبر على فقدان ابنه يوسف، والنبي محمد ﷺ واجه الأذى والإعراض في دعوته لكنه لم يفقد يقينه بنصر الله.
ومن الأمور التي تُعين على الصبر، إدراك أنّ المِحن تحمل في طياتها خيرًا قد لا يدركه الإنسان في لحظته، كما قال الله تعالى: ﴿وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُوا۟ شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ (البقرة: 216).

* الأمل: سر النجاة من دوامة اليأس
إذا كان الصبر هو القدرة على التحمل، فإن الأمل هو الشُّعلة التي تُبقي القلب مضيئًا رغم الظلام، فالمؤمن لا يسمح لليأس بأن يتسلل إلى قلبه، لأنه يعلم أن رحمة الله قريبة، وأن كل ضيق يعقبه فرج، وقد أكّد القرآن هذه الحقيقة بقوله: ﴿فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح: 5-6)، والأمل لا يعني العيش في أوهام أو تجاهل الواقع، بل هو نظرة إيجابية تُعين الإنسان على البحث عن الحلول، والاستمرار في السعي دون استسلام للظروف السيئة المحيطة، ومن أقوى الأمثلة على الأمل، قصة النبي يوسف عليه السلام، الذي انتقل من ظلمات البئر إلى عزّ المُلك، ليكون نموذجًا للصبر والتفاؤل، ومن أجمل ما يعزز الأمل، التفكر في تجارب الناجحين الذين تجاوزوا صعوبات هائلة، سواء من الشخصيات التاريخية أو من الواقع المعاصر، فكم من شخص مرّ بضائقة شديدة ثم تحولت حياته إلى الأفضل بعد صبره وتوكله على الله وتمسكه بالأمل!

* كيف نوازن بين الصبر والأمل؟
لضمان الثبات أمام المحن، لا بد من الجمع بين الصبر والأمل، ويتم ذلك عبر:
1- الإيمان العميق:
فكلما ازداد يقين الإنسان بحكمة الله، كلّما كان أكثر صبرًا وأملًا.

2- الاستعانة بالدعاء:
فقد كان النبي ﷺ يقول: “اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال”.

3- مرافقة الإيجابيين:
فالمحيط الجيد يمنح الإنسان دفعة للاستمرار وعدم الانهيار واليأس والاحباط.

4- التفكر في قصص الناجين من الأزمات:
فالتاريخ مليء بأمثلة لمن تجاوزوا محنًا عظيمة وخرجوا منها أقوى، وأعظم الأمثلة الأنبياء.

5- عدم الاستسلام للأفكار السلبية:
لأن كثرة التفكير في المصاعب دون البحث عن الحلول يزيد من الشعور بالإحباط.

* وفي الختام
الحياة مليئة بالتحديات، ولكنها لا تستمر على حال، ومن ملَكَ الصبر استطاع أن يقف في وجه العواصف، ومن تحلى بالأمل رأى النور رغم الظلام، فلا يأس مع الإيمان، ولا استسلام لمن يدرك أن الله يُدبّر الأمر بحكمة.
* عنوان مقالتنا القادم بمشيئة الله تعالى: التوكل على الله: العلاج النفسي من القرآن والسنة

* طاب صباحكم، ونهاركم، وجميع أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يُبرِم لهذه الأمة إبرام رشد.
* مقالة رقم: (1859)
02. شعبان . 1446هـ
السبت .01.02.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق