الرئيسيةمقالات

الكوابيس -روز اليوسف شعبان

تأبى الكوابيس مفارقتي، تصرّ على زيارتي كلّ ليلة، أحاول جاهدةً أن أطردها من خيالي، لكنّها تقتحم سريري، وتطلّ عليّ بوجهها العبوس، أخبّئ رأسي تحت الغطاء، أجدها أمامي، تقضّ مضجعي.

ذات ليلة بعد عراك طويل معها، استسلمت أجفاني لنواميس الكرى، فجأةً، سمعت صوت انفجار مرعب، ارتعدت في فراشي، نظرت حولي، لم أجد أختي في سريرها. أين اختفت أختي؟ كيف ذهبت وتركتني وحيدةً أصارع الكوابيس الضارية؟
لقد اعتدت على النوم بجانبها كلّما اقتحمتني الكوابيس ، تطمئنّ نفسي؛ فأغفو بجانبها. أين ذهبت أختي؟
نهضت من فراشي متثاقلة، أدوس الأرض بأطراف أصابعي، أتحسّس جدران الغرفة، تصل يدي إلى زرّ الكهرباء، أضغط عليه، علّي أبدّد الظلمة التي تغشى غرفتي، لكن دون جدوى، تساءلت في نفسي: ماذا حدث للنور؟ لماذا هذه الظلمة الحالكة؟ هل الكهرباء مقطوعة في بيتنا؟
غادرت فراشي وأنا أتّكئ على جدران غرفتي، حتى لامست النافذة، شققتها قليلا لأستطلع مصدر الانفجار، نظرت إلى السماء، التي تلبّدت بالغيوم، تساءلت أين اختفت النجوم؟ هل ارتعبت من صوت الانفجار فولّت؟ فجأة لمعت السماء، تلى ذلك صوت مرعب هزّ أركان بيتنا، فاهتزّ جسدي، دبّ الرعب في نفسي، ارتعدت مفاصلي، وأخذت دقّات قلبي تتسارع.
ما هذه الأصوات المرعبة؟ كيف تنفجر السماء فتصدر مثل هذه الأصوات المخيفة؟
رأيت الغيوم تتعارك في السماء، اربدّت وتجهمّت في غضب. خلت السماء تنشقّ إلى شطرين، وتمزّق معها ما تبقّى من نجوم مبعثرة هنا وهناك… تلملم ما تبقّى من نور ضئيل خلفها وتختفي.
أغلقت النافذة واختبأت في فراشي، وأنا أرتجف خوفا.
تساءلت في نفسي: لماذا تتعارك الغيوم؟ الفضاء رحب لماذا لا تحلّق كلّ غيمة في هدوء وسكينة؟
ماذا سيجديها هذا العراك؟ ألا ترى أنّها ترعب الأطفال بعراكها هذا؟
هل هذه الانفجارات من السماء؟ أم من مكان آخر؟
يا إلهي، أين أختي و أسرتي؟
الانفجارات تتزايد، الأصوات المرعبة تعلو وتعلو…يهتزّ جسدي تحت الغطاء، دقّات قلبي تتسارع أكثر فأكثر، أشعر بالظمأ، لكنّني لا أرى قارورة الماء، الظلمة تغشى عينيّ، أرفع رأسي، رويدا رويدا من تحت الغطاء، أجتهد في إخراج صوتي من حنجرتي الني جفّت، ثمّ أصرخ: أمّي، أبي، أختي،أخوتي أين أنتم؟
ما هي إلا لحظات حتى رأيت أمّي تقف أمامي مذهولة، تحمل قنديلا بيدها، يبدّد بعضا من الظلمة الحالكة، حضنتني برفق، وبدأت تمسح الدموع التي أخذت تنهمر على وجنتيّ، ثمّ بدأت تبسمل وتحوقل، وتقرأ المعوذات،
أين أنتم يا أمّي؟ أصوات الانفجارات ترعبني.
أيّ انفجارات يا ابنتي؟
لقد سمعتها قبل قليل. نهضت من فراشي مرعوبة، نظرت إلى السماء، رأيت غيومها تتعارك، أضواء مخيفة وأصوات رهيبة كانت تمزّق كبد السماء.
يبدو انك تحلمين يا صغيرتي، لا توجد انفجارات، ولا أضواء مخيفة في السماء، اطمئنّي، أنت بأمان.
لكن أين أختي؟
إنّها في غرفة المكتبة، لا زالت تقرأ.
كيف تقرأ في الظلام؟
لقد أضاءت مصباحا؛ لحين عودة الكهرباء، فغدا لديها امتحان هامّ.
ماذا حدث للكهرباء؟أين اختفى النور يا أمّي؟
النور لم يختف يا ابنتي، حدث تماسٌّ كهربائي، سيصلحه والدك في الحال.
ما كادت أمّي تنهي كلامها، حتى أضاء
النور غرفتي، هدأت نفسي، واستكانت.
وضعت صدري في حضن والدتي، التي أخذت تمسّد شعري بيديها الناعمتين، تساءلت في نفسي: ماذا يحدث لغيري من الأطفال حين تنتابهم الكوابيس ولا يجدون أمّا تحضنهم وتهدّئ من روعهم؟ كيف يتخلّصون من كوابيسهم؟ كيف ينامون؟ ماذا يفعلون بمخاوفهم؟ من يساعدهم؟يا ربّ ارفق بجميع الأطفال الذين فقدوا أمّهاتهم، أغمضت عينيّ، وأنا أصلّي أن يبقي لي الله أمّي، وأختي، وأسرتي، وأن يرحم الأيتام ويتولّاهم برعايته. غفوت في حضن أمّي بسكينة حتّى الصباح.
نور خفيف بدأ يتسلّل من نافذة غرفتي، فتحت عينيّ، نهضت من فراشي، فتحت النافذة، نظرت إلى السماء.
كان النور يدحر بقايا فلول الظلام، مفسحا الفضاء لملكة الكون، التي أطلّت في خفر، وقد تضرّجت وجنتاها بحمرة خفيفة مشوبةٍ باصفرار باهت.
مع انبلاج الفجر، بدأت الأصوات تعلو من هنا وهناك، مبدّدةً هدوء الكون.
شيئا فشيئا بدأت الأصوات ترتفع بصخب؛ لتملأ الفضاء بضجيجها.
استيقظت الكائنات من سباتها، بدأت تستعدّ ليوم جديد آملةً أن يكون يوما آمنا سعيدا.
بدأت الطيور تحلّق في الفضاء، كلّ سرب يحلّق خلف قائده بنظام مذهل، لكنّها جميعا، بدت لي صامتة حزينة.

روز اليوسف شعبان
22/10/24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق