مقالات
الشاعرة مريم قوش من أزقة المخيم إلى سلم المجد الكاتب والناقد/ ناهـض زقـوت
ذات يوم كانت غزة تصدر البرتقال والابداع، وبما أنه لم يعد ثمة برتقال تصدره غزة بعد أن أصبحت كتلة اسمنتية تحيط بها الأسلاك الشائكة من كل الاتجاهات، فكان لا بد من نافذة أمل ترنو من بين فتحات قضبانها نحو الشمس تارة ونحو البحر تارة أخرى، وعلى أجنحة طائر الشنار حملت الابداع رسالة إلى العالم تحكي عن مأساتها ومأساة فلسطين وشعبها، فحمل مبدعيها أشعارهم وقصصهم إلى محافل العالم شامخين بمجد المعاناة غير مستسلمين ولا خانعين لإيمانهم الراسخ بعدالة قضيتهم أمام عالم زائف يدعي الحرية وهو غارق في ظلم شعب لا يطالب إلا في حقه التاريخي والمكاني.
قد كان لي وطن/ أشد بظهره كفي/ يرنو إلى موج الشموش حفي/ وأتيه خلفك/ كي أراك على مرايا الروح/ وأتيه خلفك كالمسيح أموت في/ تموت في رحم العبادة/ والصليب يدق/ فوق ظلالهم حتفي/ وأراك تركض هارباً/ لا أرض تحتك أو سماء/ …/ ما عاد يتعبنا الوقوف/ على الصراط/ وإن غدا/ مراً سليلاً جارحاً سيفي/ …/ يا موطني/ إني عشقتك/ ذقت دونك صابرا حتفي/ طلق المحيا مثل مئذنة/ على خد القباب/ صلابة وصبابة/ وتصيح من فرط الأسى يكفي.
ومن نافذة الأمل انطلقت شاعرتنا مريم محمد قوش المولودة في مخيم النصيرات/ قطاع غزة، والتي تعود جذورها إلى قرية يبنا قضاء الرملة والمهجرة سنة 1948م، وفي مدارس المخيم تلقت تعليمها حتى المرحلة الثانوية، حاصلة على بكالوريوس تربية لغة عربية من الجامعة الإسلامية بغزة سنة 2011م، وعلى ماجستير أدب ونقد من جامعة الأقصى بغزة سنة 2022م.، وتحضر لرسالة الدكتوراه.
تمتلك موهبة فطرية ظهرت في سن مبكرة، ففي سنيها الـ12 كتبت تجارب نثرية بسيطة، وفي عام 2005م بمرحلة الثانوية العامة بدأت في تدوين الشعر الموزون، وفي الجامعة الاسلامية حازت على جائزة الشعر سنة 2015م، وصقلت تلك الموهبة بالقراءة والاطلاع الثقافي، وبعين ثاقبة تخزن ما يدور حولها من رؤى وتجارب حياتية وقصص ومأسي اجتماعية، تبلورت فكراً وكلمات جرت على لسانها شعراً.
وقد حددت وجهتها وطريقها نحو الوطن المسلوب، ترسم حكاياته، وتغزل من خيوط الشمس تراثه، وتروي ذكرياته من فم الأجداد والجدات، وتعيد ترتيب أشجاره وأزهاره، هنا صفصافة .. وهنا شجرة تين .. وهنا جميزة .. وهنا البرتقال، وهناك البير والبيدر .. وتستمع إلى حكاية الغول والشاطر حسن، فتحلق عالياً في فضاء الكون لتقول للعالم ما زال الحنين يشدونا نحو الوطن:
لا أنتمي إلا لخيط العائدين/ تشقه من توتة الميعاد ديدان مثقفة/ تعد لأرضنا الثكلى الوشاح/ الغصن مجذاف الحفاة، ورملنا النبوي/ أشبه بالمحيط، وإن هودجنا تناءى/ في الحنين، وما استراح.
يقول أحد النقاد: إذا صح أن الشعر هو سيد الكلام ولغة الأحاسيس لا يمكن أن يأتي من هواية أو تطفل من أجل حمل لقب “شاعر” كون الشاعر الحقيقي هو من يستطيع أن يشعل لحظة برق قليلة ويترك فيك لحظات رعد طويلة. هو ذاك الشخص الذي بمقدوره أن يبدع الجمال والسمو بالحياة، وفي نفس الوقت يمتلك فن صيانة الذات ومواجهة الظلم والمهانة.
تلك هي الشاعرة مريم قوش التي حملت ابداعها الشعري إلى العالم مغلفاً بآيات الألم والمعاناة، تحكي رواية فلسطين وأوجاع شعبها. انطلق ديوانها الأول (سبع عجاف) الصادر في عمان سنة 2017م، مخترقاً الحصار لكي يصرخ في وجه العالم:
…/ ويزيد أوجاع الحصار/ صخر توقف في طريق الخندق المرصوص/ غاراً فوق هامات المدينة/ من يفجر الأحجار نهراً/ نارهم تسعى إلينا السامري يسيل عرماً/ مثل أمواج الأفاعي/ تحت جنح الليل إذ بزغت ضغينة/ من يصنع الأحجار مصباحاً نحك ظلاله/ فتذوب دمعتنا الحزينة/ من يصنع الأحجار نخل جدائل نجتازها/ فيموت عرقوب ونحيا في سكينة/ وتوقف الزمن البطيء هنيهة/ وكأنما قد عاد هذا الكون رتقاً أو دخان.
وكانت صرخة مدوية حملت سيرورة التاريخ، وعبق الماضي، ورؤى وجودية تمزج بين الأسطورة وتفاعل دلالاتها مع الواقع. فانبهر الحاضرون بالكلمات الخارجة من القلب لتشعل الذهن ناراً وفكراً، فيعلن أعضاء لجنة التحكيم لجائزة البحر الأبيض المتوسط الدولية للشعر لعام 2022م عن فوزها بالجائزة التي سبقها إليها الشاعران الفلسطينيان الراحلان: محمود درويش، وفدوى طوقان في ثمانينيات القرن الماضي. وجائزة البحر الأبيض المتوسط الدولية للشعر تقام في العاصمة الايطالية روما، وهي جائزة دولية تشارك في تنظيمها عشرون جامعة أوروبية وأمريكية، بمشاركة شعراء عالميين على اختلاف لغاتهم: العربية والإيطالية والفرنسية، واليونانية، والألبانية، ومن مختلف دول العالم.
يرسم الفنان لوحة بألوان مبهرة تشد العيون، وشاعرتنا مريم ترسم بالكلمات صوراً شعرية مبتكرة يلفها الرمز دون الاغراق في الغموض، صور شعرية تعبر عن جيلها الذي نشأ وسط الألم والدمار والخراب، وسط صرخات الأطفال، ودموع الأمهات. حمل طائر القطا صورها النابضة بالرؤى الجديدة والبعيدة عن المناخات الجامدة، في ديوانها الثاني (كما تمشي القطا) والصادر في القاهرة سنة 2019م.
وقد احتل المكان مساحة أكبر في الرؤية، فقد رأت فيه ما لا يراه غيرها، فمنحته أبعاداً جمالية جديدة، وفيه تنعى الوطن بطريقة مغايرة تثير الشجن والحزن الدائمين، من القدس إلى جنين إلى سلفيت إلى يافا وصولاً إلى مدينة الضباب تقول:
لا زلت أركن للضباب/ يصدني/ ويكاد يخنقني/ يلف حباله حول العنق/ وأدق باباً للرجاء يصدني/ والقلب يحبو للصباح/ إلى الأفق/ أفقي سراب سرمدي مغلق/ وتمور فيه نجوم ظلي المحترق/ يا موطني/ قد ذبت حقاً/ ليس يسعفني الغمام/ ولا الحنين إلى الشفق/ إني رجوت/ وبات يتعبني الرجاء/ من الحياة/ وبات يقلقني الأرق!.
إن الكلمة الصادقة ينتقل تأثيرها عبر الأثير لمسافات، ويعود أثرها محملاً بالمجد، فقد حاز هذا الديوان في سنة 2021م على جائزة دولة فلسطين للآداب والفنون/ فئة المبدعين الشباب.
وما زالت الشاعرة مريم قوش ترتقي سلم المجد، ويصدر ديوانها الثالث (رسائل إلى البرتقالي) الصادر في عمان 2023م. وهنا تتعمق الصورة الشعرية بكل أبعادها الانسانية، وتنفرد بجمالية فريدة وبإيقاع عذب رغم ما يسري بها من آهات وأحاسيس إنسانية مفرطة تشدو لحناً محملاً بالأماني والحنين.
عاتبت صمت العابرين من الضباب/ وقلت للشجر المخضب باغترابي: شدني/ وتراً تأوه بين حاشتين في فصل الحصيد/ وقلت للنمل المسافر في نبوءته: التهمني، كي أمازج/ طينة الحلم الخصيب. / عاتبتهم، فتناثر الرمان في جسد المسافة:/ أينا للحزن أسبق؟/ أينا في الدمع أعمق؟/ أينا قد أتقن التقطير في كوب الغواية/ ثم أحرق هودج التأويل، واختصر الفيافي كلها/ في دمعة نبتت على خد الكثيب؟.
تقف الشاعرة مع هذا الحنين الذي بسكنها وهي تبحث عن نبع السعادة من خلال ضرورة انتصار وجه الغضب على المرارات بإنهائها وإزالة مسبباتها، فهي صورة شاعرية لم تخلق لذاتها وإنما لتكون جزءاً من التجربة ومن البنيان العضوي في القصيدة كما يقول (مكليش) “إن الصور في القصائد لا تهدف إلى أن تكون جميلة، بل أن عملها هو أن تكون صوراً في قصائد، وأن تؤدي ما تؤديه الصور في القصائد”.
إن جمالية الرؤية وعمق الفكرة، دفعت المتذوقين للشعر أن يدركوا دلالات الشاعرة وصورها المنحوتة من قلب مفعم بكل الأحاسيس التي تمزج بين الألم والفرح، فلم يكن أمامهم إلا الإنحاء لمجد القصيدة ويحصل ديوانها على جائزة فلسطين الدولية في مجال الشعر – المرتبة الأولى، الأردن 2021م.
وما زالت الشاعرة مريم قوش ترتقي سلم المجد، فقد حازت على المرتبة الأولى لجائزة أنطون سعادة عن ديوانها (انتماء للنهار) في بيروت 2023م، متفوقة قصائدها على العديد من المشاركين والمشاركات من شتى أنحاء الدول العربية.
وفي 2019 نالت جائزة جابوتش للأدب العالمي التي تنظمها وزارة الثقافة اليابانية والمصرية، وترجمت قصائدها إلى اللغة اليابانية، كما تم اختيارها ضمن أكثر من 28 شخصاً أكثر تأثيراً في فلسطين.
وما زال في خيالاتها وفكرها العديد من الأعمال الشعرية التي لم تنشر بعد، والمعبرة عن روحها الوقادة التي لا تنطفئ، والتي تدخل القارئ في عوالم جديدة، وأبنية مبتكرة تعبر عن روح العصر.
إن اللغة الشعرية هي هوية الإبداع الشعري، وهي العلامة الدالة على انتمائه إلى دائرة الشعر. وتعد اللغة هي أحد مفاتيح النص وقنوات النفاذ إلى سبر أغواره، والكلمة تشبه الخلية المصغرة في بناء النص، تحمل كل صفاته النفسية والاجتماعية وطاقته التأثيرية، ومن خلالها يصل المتلقي إلى جماليات الصورة الشعرية.
تتسم لغة الشاعرة مريم قوش بالاتكاء غنائية الأنا، وانفتاح حر على فضاء الذاكرة واسترجاعها ملحمياً وتراثياً وأسطورياً وتاريخاً في صورة تتجاوز الأنا الفردية لتصبح عنصراً يرتبط بالمجموع الذي تنتمي إليه، لتحمل راية التعبير عن صوتهم بأسلوب تعميق الذات في الكل. تحاول الشاعرة ربط عدة صور شعرية تبدو كلماتها متباعدة، غير أنها تنصهر في اطارها الكلي في انطلاقها من روح الشاعرة ورؤيتها بما يحل بشعبها من انتكاسات وظلم مستديم.
وتأتي صناعة القصيدة عندها محكمة التركيب والبناء، وترسم لوحتها بكل جمالية وصورة ذات دلالات متعددة، وتضع القارئ أمام مشهد اكتملت كلماته وتعبيراته، ولا تترك للقارئ مجالاً لكي يبدع على ما أبدعته، بل عليه أن يتأمل ويغرق في الاندهاش إلى حد التماهي مع النص.
أحن إليك/ وجئت اليك/ كحقل النوارس/ تحمل شمعاً/ تعد العطور/ فهل تفتح الباب حقاً؟؟/ أتيت إليك ربيع البلاد/ فهل تفتح الباب/ أم هل تزيد الجراحات عمقاً؟/ أحن إليك كعصفورة/ في الفضاء تحلق حيرى/ فتبعد تقرب/ تلغي المسافات/ ما بيننا/ وتأتيك مثل النوارس قوساً/ وأعلن فيك/ اشتياق المنافي/ وكسر الحدود/ نهاراً وهمساً/ أحن اليك أيا موطني.
غزة: 23/9/2023