مقالات

تطوير علاجات جديدة للسرطان: من وإلى أين؟

بروفيسور كريم عزب

نبذة تاريخية: 

يعتبر مرض السّرطان من أكثر الأمراض فتكًا في العصر الحديث بواقع مليونا حالة مرضيّة ونصف مليون حالة وفاة في سنة 2022 في الولايات المتحدة الأمريكية فقط. لكنّ المرض معروف مُنذ القِدم وهناك توثيق لأورام سرطانيّة في برديّة مصريّة يزيد عمرها عن 3500 سنة. أما اسم “سرطان” فقد أطلقه الطبيب اليونانيّ “أبقراط ” (400 ق.م.) إذ شبّه شكل النموّ غير المتّسق للأورام بشكل سرطان البحر. علاجيًا، اعتقد “أبقراط” بأن لا فائدة من معالجة السّرطان وأنّه مُهلِكٌ المريض لا محالة، مثلما اعتقد “جالينيوس” و”سيلسوس” الذي علّل ذبك بالقول إنّه “بعد الاستئصال، وبالرّغم من ذلك، يعود المرض”. يُعتبر “ابن سينا” (980 م.) أوّل من اعتقد بجدوى معالجة السرطان فكتبَ في مواقع مختلفة من كتابه “القانون في الطّبّ” أن “السّرطان إذا استُؤصل في أوّل أعراضه شُفي المريض منه” و”يجب أن يُداوى بالمراهم” و”إذا طالت العلّة، لم ينفع العلاج” وهذا التّوصيف قريب للعقيدة الطبّية اليوم.

كيف ينشأ السّرطان؟

السّرطان هو مجموعة أمراض تنمو فيها خلايا الجسم بشكل أسرع من الطّبيعيّ، خارج موقعها في النّسيج، وكثيرًا ما تقتحم حدود النّسيج وتخرج منه لتستوطن في أنسجة وأعضاء أخرى ممّا يؤدي إلى خلل أو تعطّل تام في وظائف تلك الأنسجة والأعضاء. ويسمى السّرطان باسم العضو الأوّليّ الذي نشأ منه. تمرّ الخلايا بمراحل بيولوجيّة متعدّدة لتتحوّل من خلايا عاديّة إلى خلايا سرطانيّة: تحدث طفرات وراثيّة (جينيّة) في الخلايا العاديّة بشكل دائم بفعل تأثيرات ضاغطة على الخلايا مثل الإشعاعات والمواد الكيمياويّة الضّارّة أو بسبب نقص في نوع من الغذاء أو نقص في الأوكسيجين أو بسبب أخطاء خلال نسخ المادة الوراثيّة في عمليّة انقسام الخلايا وغيرها. غالبيّة هذه الطفرات لا تؤدّي إلى خلل في وظائف الخليّة وتُكمل الخليّة مهامها كخليّة عاديّة. نادرًا ما تسبّب هذه الطفرات خللاً وظيفيًّا في الخليّة وغالباً ما يتمّ اكتشافها فيتم تفعيل آلية داخليّة تؤدي إلى “انتحار” (موت مُبرمج) للخلايا المصابة. في حالات نادرة جدًا، لا يؤدّي الخلل الوظيفيّ إلى “انتحار الخلايا”، بل تعيش هذه الخلايا فتكون غير وظيفية ولكن غير سرطانيّة أيضاً. في حالات أكثر نُدرة، يكون الخلل الوظيفيّ في جهاز النموّ والانقسام الخلويّ، بحيث تُحفَّز فعّاليّة عوامل النّموّ أو تُثبَّط عوامل كبح النّموّ الزائد، أو كليهما معاً. وفي هذه الحالة تنشأ خليّة سرطانيّة. في الغالبيّة الساحقة من الحالات (النادرة جدًا) لنُشوء الخلايا السرطانيّة يقوم جهاز المناعة برصدها وقتلها فورًا. وفي حالات بالغة النُدرة، تستطيع هذه الخلايا “التخفّي” والإفلات من جهاز المناعة وعندها يتطوّر النَّشء السّرطانيّ وبِتَكاثُرٍ سريع ولا نهائي للخلايا ينتج الورم خبيث. التحدّي الأكبر في علاج السّرطان هو أنّنا لا نحارب مُتعضّيات دخيلة (كالجراثيم والفيروسات) بل نحارب خلايانا “المارقة”. وكما في الحياة الاجتماعية، فإنّ أعداء الدّاخل دائمًا ما يكونون أكثر ضررًا وأصعب مجابهة من أعداء الخارج.

العلاجات الحالية:

كانت الجراحة في القِدم تشكل العلاج الوحيد للسّرطان، باستئصال ميكانيكيّ للورم بناء على خصائصه الفيزيائيّة، كالحجم والشكل والصّلابة. لكن ما أدركه الأطباء القدامى بالمشاهدة، ونرصده اليوم تجريبيًّا، هو أنّ الاستئصال الجراحي ليس كافيًا للشفاء. فغالبًا ما تترك الجراحة جزءًا من الورم لا يرى بالعين المجرّدة، بحدٍّ أدنى من بقايا المرض، يؤدّي إلى عودة المرض وتفاقمه بعد فترة معيّنه. هذا، علاوة على الحالات التي لا يمكن فيها استئصال الورم جراحيًّا. مثلًا، لقربه من وتداخله في أعضاء مهمّة أو عندما يكون السّرطان من أنسجة غير صلبة، كسرطانات الدّمّ بأنواعها. لذلك، لا بدّ لنا من علاجات تستهدف الخلايا السرطانيّة بناء على خصائصها الحيويّة. في نهاية القرن التّاسع عشر استُعمل العلاج الإشعاعيّ لأوّل مرّة (في جامعة شيكاغو) لمعالجة السّرطان لأن الإشعاع يؤدي إلى تحطيم الحمض النوويّ في الخلايا السّرطانيّة خلال المرحلة الأخيرة من انقسامها، فيؤدّي إلى موتها. هناك العلاج الكيماويّ أيضًا، وهو مواد ذات سميّة عالية تقتل الخلايا السّرطانيّة عن طريق ارتباطها بالحمض النّوويّ وتعطيل نسخ المادة الوراثيّة وترجمتها إلى بروتينات. وقد كان أوّل هذه المواد مشتقّات غاز الخردل بعد الحرب العالميّة الأولى ثم تطوّرت أكثر بعد الحرب العالميّة الثانية (في جامعة يِيل) وبعدها مواد تثبّط بناء الحمض النّوويّ بمنع فعّاليّة حامض الفوليك (بمعهد دانا- فاربر للسّرطان في جامعة هارفارد)، تلتها مواد كيماويّة سامّة كثيرة أخرى. لكن العلاجَين، الإشعاعيّ والكيماويّ، يُحدِثان الأضرار نفسها في الخلايا العاديّة (ولو بدرجة أقل من السّرطان) فيسببان بذلك أعراضاً جانبيّة تحدّ من فعّاليّتِهِما. هنالك اليوم تطوّر هائل في تقنياّت الإشعاع، بحيث يمكن تركيزه بدقّة في مناطق الورم فتزداد فعّاليّته وتقلّ أعراضه الجانبيّة. مع بداية القرن الحادي والعشرين، إذ برزت علاجات “موجّهة” تعتمد على التّحليل البيولوجيّ لآليات نشوء السّرطان ثم استهدافها بشكل محدّد، ممّا يزيد فعّاليّة العلاج ضدّ السّرطان ويقلّل من الأعراض الجانبيّة (علاجات بيولوجيّة). هذه النّقلة حدثت بفضل التطوّر العلميّ الهائل في تقنيّات عِلم الوراثة (تغييرات في الشيفرة الجينيّة نفسها) وعِلم التَّخَلُّق (تغييرات في التّعبير الجينيّ والتّرجمة الجينيّة للبروتينات)، من ضمنها علاجات لتشجيع الموت المبرمَج أو تثبيط عوامل النّموّ أو إعادة تفعيل كوابح النّموّ في الخلايا المعطوبة. لكن هذه العلاجات، ورغم أنّها أحدثت نقلة كبيرة في خفض حدّة وسرعة تطوّر المرض وفي إطالة المدّة التي يعيشها المريض بدون عودة المرض، إلّا أنّ فعّاليّتها تبقى محدودة في “شفاء” المرضى وذلك لأنها تُعالج الخلايا السّرطانيّة تحديدا وتترك الظروف البيئيّة المحيطة التي أدّت إلى نشوئها أصلاً، بما في ذلك اجتيازها كل مراحل الرقابة الداخليّة في الجسم.

علاجات طور البحث:

إن كان العقدَان المُنصرمان هما عقدا الوراثة والتّخلّق، فإنّ العقد الثالث هو عقد استهداف البيئة المجهريّة المحيطة بالخلايا السّرطانيّة. تبلورت في الآونة الأخيرة نظرة شموليّة لفهم الورم السّرطانيّ ترى بالورم نظامًا بيئيًّا متكاملًا تتفاعل فيه خلايا السّرطان مع الخلايا الأخرى الموجودة في محيطها المجهريّ. تقوم الخلايا السّرطانيّة بالتواصل مع الخلايا الأخرى لـ “برمجة” بيئتها لتكون الحاضنة المُثلى لتطوّر الورم فتجنّد العوامل الدّاعمة للنّموّ السّرطانيّ وتُنمّيها (كتولّد أوعية دمويّة جديدة والتّظافر مع خلايا النّسيج الضّام) وتُحبِط العوامل الكابحة للنّموّ السّرطانيّ (كتثبيط خلايا جهاز المناعة بأنواعها). بهذا، تَنتُجُ “بيئة سرطانيّة” تَسمحُ بإعادة نموّ السّرطان حتّى لو قتلنا كلّ (أو الغالبيّة السّاحقة من) خلايا السّرطان نفسها بواسطة العلاجات التقليدية. من هنا، ينصَبُّ جلّ الاهتمام حاليًّا على تطوير أدوية “تعيد برمجة” البيئة السّرطانيّة إلى بيئة “صحيّة/ عاديّة” تكون بيئة طاردة للسرطان، بالإضافة إلى الأدوية التقليديّة. هنا تبرز إستراتيجيّتان للعلاج: الأولى، تثبيط العوامل الداعمة لنموّ السّرطان، كالأدوية المانعة لتولّد الأوعية الدمويّة والأدوية المانعة لتواصل الخلايا السّرطانيةّ مع خلايا النّسيج الضّام في محيطها (وهذه تنضوي تحت العلاج البيولوجيّ أيضًا). الثانية، إعادة تفعيل العوامل الكابحة للنّموّ السّرطانيّ والمتمثّلة في جهاز المناعة (علاج مناعي). كما أسلفنا، تُطَوِّر الخلايا السّرطانيّة آليات “للتّخفّي” والإفلات من رقابة جهاز المناعة، عن طريق إظهار مركّبات معينّة على السّطح الخارجي للغشاء الخلويّ توحي لجهاز المناعة بأن الخلايا “عادية”، فتقوم بتثبيط فعّاليّة جهاز المناعة (كالخلايا التائية والخلايا البلعومية وغيرها). هنالك علاجات جديدة ترتكز على إخفاء هذه المركبات، وبذلك تزيل ستار التّخفّي عن الخلايا فيرصدها جهاز المناعة ويقتلها، ذاتيًّا. هنالك طريقة أخرى لـ “تلقين” و”إعادة تعريف” جهاز المناعة على الخلايا السّرطانيّة قسريًّا، بحيث نستخرج خلايا مناعيّة من المريض وبفضل تطورات هائلة في تقنيّات الهندسة الوراثيّة، نقوم بإدخال جينات جديدة إلى المادة الوراثية لهذه الخلايا فيصبح فيها “مجسّات” خاصة لاكتشاف خلايا السّرطان. وبعد هندستها جينيًّا، نقوم بتفعيلها “واستفزازها” خارج جسم المريض لتكون جاهزة للمواجهة، ثم نعيدها إلى جسم المريض فتقوم باكتشاف الخلايا السّرطانيّة وقتلها فورًا.

خلاصة:

لقد فرض علينا فهمنا الجديد لتطوّر السّرطان بيولوجيًّا (بفضل علوم الوراثة والتخلّق وفهم البيئة السّرطانيّة) إعادة النظر الكليّة في عقيدتنا العلاجيّة. وقد أصبحنا نعي اليوم، تمامًا، أنّ طبيعة “السّرطان” كمرض تختلف تمامًا ليس فقط من عضو إلى آخر، وهذا مفهوم ضمنًا، بل حتى نّوع السرطان نفسه يختلف بيولوجيًا من مريض إلى آخر. فلكل مريض “سرطانه” الخاصّ به، بخصائصه الوراثيّة والتخلّقيّة والبيئيّة. وعليه، فنحن اليوم في أوج تطوير منظومات تعتمد على تقنيّات هندسة الأنسجة لتوصيف ومحاكاة أدّق التفاصيل البيولوجيّة لكل مريض بعينه (الطبّ الشّخصيّ)، نبني عليها نماذج يمكنها التّنبُّؤ بالفعّاليّة العلاجيّة للعلاجات المختلفة قبل إعطائها للمريض سريريًا، فنكون بذلك قد طوّرنا نظامًا ناجعًا ليس فقط “لمعالجة” المرضى، وإنّما “لشفائهم” أيضاً. فلسان حالنا يقول لكلّ مريض بعينه، ليس بصفته كحالة مرضيّة، وإنّما بكينونته كإنسان: صحّتك “فارقة معي”!

 بروفيسور كريم عزب سيرة ذاتية 

مختصّ بالهندسة الطبيّة, وبيولوجيا السّرطان, والصيدلانيّات, والكيمياء الدوائيّة.
بروفيسور مشارك, قسم الهندسة الطبيّة, كليّة الطبّ, جامعة تكساس-ساوثويسترن. فائز بجائزة النّجم الصّاعد في أبحاث السّرطان, من مركز الوقاية من وعلاج السرطان في تكساس . مؤسس ومدير تنفيذي لشركة “سيلاتريكس” لتقنيات الطبّ الشّخصيّ لعلاج السّرطان، ومؤسس ومدير تنفيذي لشركة ” تارچيتيد ثيراپيوتيكس” لتطوير علاجات موجّهة للسّرطان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق