هو أخي الأصغر محمد أمين ذو الأربع سنوات ، أخي الذي لم تلده أمي بل أنجته زوجة والدي و جعل بذاك صدى كلمة ‘ماما’ يقرع أجراس خربتنا الأيلة للسقوط , أجدني أحيانا أتساءل من سيكون أول من يخبر محمد أمين حقيقة أنني لست أخاه الشقيق و أبدا لم تكن لنا الأم نفسها و إن كان لنا البيت نفسه و الأب نفسه و الطعام نفسه بل و صوت الخراف نفسها و صياح الديك من سطح البيت ..
أمي رغم الوعد الذي قطعته بالبقاء سندا لوالدي مدى الحياة , إلا أن الموت قد باغتها أخيرا ، و لعل هذا ما جعل والدي حزينا و قرر أخيرا أن يتزوج امرأة أخرى ظنا منه أن والدتي من قررت التخلي عنه , الموت جعلها تفسح المجال أمام إمرأة أخرى تملأ علينا الدار و تنادي على والدي ب ‘الرجل’ ، كما كانت أمي تنادي عليه لسنوات ، في حين جعلنا لها نحن الأبناء لقب ‘خالتي ‘ و إن لم تكن هي أخت والدتي رحمها الله ، لم أستصغ أول الأمر جلوسها بجوارنا على مائدة الطعام ، و كان تودد والدي لها يقتلني حقا و يجعلني أشعر برغبة قوية في البكاء قبل أن اتذكر أخيرا انني لست من النوع الذي يبكي ، لم يكن قلبي غرفة فندق لعين لأرمي ذكريات أمي خارجا و أقدم مفاتيح الغرفة لزوجة والدي ، رويدا رويدا اعتدت الأمر و وجدتني مرغما على مواصلة الحياة على هكذا شيء ، فصارت هي تطهو الطعام من نفس الأواني التي ألمت بيدي أمي كلما انهمكت في تنظيفها ، و تفتح باب الدار بالمفتاح نفسه التي كانت تحمله أمي و قد أحكمته بخيط للحافها المزركش ، بل و أكثر من هذا شاركت والدي الفراش و نامت بمضجع أمي قيد حياتها ، بيد أن لا شيء من هذا أنساني أمي و إن كانت زوجة والدي جعلت لنفسها ايضا مكانا بألبوم صور العائلة ، لا بأس مادامت هي الأن أيضا فردا من العائلة و أنجبت لوالدي طفلا صار لي أخا ، 60 سنة أفنتها أمي بالدوار فلعنة البقاء طاردتها كما طاردتني و طاردت والدي بل و طاردتها حتى بعد موتها فدفنت بذاك جثمانها تحت تراب القرية أيضا ، لم تنفق أمي الستون سنة من عمرها بتصفح مواقع التخسيس و إزالة الدهون لترضي خاطر والدي ، فقد كان والدي معجبا بأمي حد الاعجاب و إن لم يبدي يوما اعجابه بها و لم يصارحها به ، عيب القرويين أنهم عاجزون عن الإفصاح بمشاعرهم تجاه أزواجهم و أصدقائهم ، و كمثال جارنا سبيركلوس اللعين و الذي أمقته مقتا غير أني عاجز عن الإعتراف له بمشاعري هاته و أقف منافقا قبال دكانه أبداله التحية كل صباح ، لم تنفق أمي الستة عقود من حياتها بالوقوف قدام المرآة لتضع مساحيق تجميل ، بل كانت تقف لساعات فوق سجادتها تصلي و تدعو خالقها ، لم تتصفح مجالات الموضة و لا قنوات التيلفزيون و لم تستمع لأغاني أم كلثوم و لم تحمل أخر أغاني القيصر كاظم الساهر ، لم تفعل أمي أبدا شيئا من هذا ، أمي القروية التي أحسنت و أتقنت التعامل مع سنوات عمرها و كأنها علمت بقدوم عزرائيل فلم تنتظر إلى أن تصير عجوزا بركن البيت تحمل سبحتها النهار بطوله و تقتات مما يجود به عليها أهلها من ‘صوبة’ و ‘عصيدة ‘ ، أمي من أطعمت دجاجاتها و نثرت حبات القمح بالخم و سقت شجيراتها و حملت الطعام لوالدي بالحقل و خاطت ملابسنا و جالست النساء زوالا بالمسيد لتنال بدورها قسطا من التعلم و حفظ أيات الذكر الحكيم على يد ‘للا مبايركة ‘ ، أمي من جعلتني أرى الدوار بصورة غير التي يراها بها الأخرون ، الصورة التي صورنا بها الإعلام على أننا لسنا غير أغبياء و متخلفين يرعون الغنم و يقتاتون مما تنتج الارض فقط و لم يحملوا يوما هاتفا ذكيا و لم يدلفوا سوبر ماركت ، أمي من جعلتني أتعلق بأرض القرية فصعب على الجميع إقتلاعي منها فصرت صورة لها و لوالدي .. أمي من سألتها و أنا بعمر أخي هذا عن علة رفع يديها للدعاء بعد كل صلاة و قد باعدت بينهما عكس أخر مرة حيث جامعت بين يديها فصارت كمن يروي عطشه من أسفل صنبور لعين ، كان سؤالا ساذجا من صبي مثلي حينها ، لم تتجاهلني أمي ذاك اليوم بل أنها ردت بسذاجة عن سؤالي ساذج ، فردت قائلة أن علة فتح اليدين أو أن تجمع بينهما هو غرض الدعاء ، إن كان هو ذا حجم كبير باعدت بين يديها و إن كان صغيرا جامعت بينهما ، صرت حائرا اليوم ماذا لو كان الغرض من دعائي أن يجمع الله بيني و بين أمي هناك بالجنة ، فكيف ستكون وضعية يداي ما دامت الجنة بعرض السموات و الأرض …
بقلمي : عماد حفظي