الرئيسيةمكتبة الأدب العربي و العالمي

مواطن يدفع الأجرة مرتين / إسماعيل رمضان

مواطن يدفع الأجرة مرتين

كان سائق التاكسي العمومي يدندن بأكثر من أغنية، ويحرك موجات الراديو على أكثر من محطة، وكل شيء فيه يعمل بنشاط، يسمع، ويغني، وعينيه تلتقط الركاب وحركه المرور، وقلبه ومشاعره على جيوب الركاب.
ومن حين إلى آخر يسأل من منكم لم يدفع الأجرة، ويستمر بالسياقة، وترديد الأغاني، وشتم السائقين الآخرين، وتظهر بين الفينة على وجهه تكشيرة، وأحياناً ابتسامة، وربما أمنية أن ينزل بعض الركاب ليصعد آخرين غيرهم، ويتجاوز بسرعة سيارة أخرى، ويلتقط على حد تعبيره شيكل عن الطريق، أي مواطن آخر، ويستمر بالسير والالتفات إلى اليمين وإلى اليسار ويقول من منكم لم يدفع.

وعلى طول الخط الطويل من لحظة الانطلاق تبدل الركاب لأكثر من مرة، وعندما كانت تخلو السيارة من الركاب يبدأ بالتذمر، لأن السلطة تعطي تراخيص إضافية لشراء سيارات إضافية تعمل عمومي، ويقول: هي السلطة شو هامها غير الضريبة ورسوم (البيرمنت)، ويقول: عدد السيارات أصبح أكثر من عدد الركاب، فيقترح عليه أحد الركاب أن يستوردوا ركاب من الصين، ليتناسب عدد السيارات مع عدد الركاب.
ويستمر السائق بتقليب موجات الراديو، ويفتي بالأغاني الجميلة، والأغاني غير الجميلة، ويطلق لسانه كما يطلق عجلات السيارة، وينظر شزراً إلى بعض الركاب الذين طال بقائهم، ولم يتم استبدالهم براكب جديد، ويسأل: أنت مطول يا اخوي أنت لوين واصل؟
ويركب وسط هذا التمازج رجل مسن هدّه التعب، وأشقاه طول اليوم بحثاً عن لقمه العيش، ويمتلئ وجهه بالغضون، وملابسه بغبار الورشات ويوم العمل المضني، وعرقه قد بلل ملابسه.
يرتمي ساهم الطرف على الكرسي يريح بدنه المكدود، ويكون كمن لا يرى أمامه سارح في أفكاره، فجسمه على المقعد، أما مشاعره وأفكاره لم تركب السيارة معنا بعد، يدفع أجرته بمجرد صعوده، وينجو بنفسه عن السائق، والشارع، والسيارات، والضجيج، ويستمر السائق بشتم سائق آخر أبو اللي أعطاك رخصة، ويردد أغاني من محطة لمحطة، وينظر بالمرآة مين منكم لم يدفع؟؟ ولا يهتز لأحد من الركاب جفن، ولكن تعود بعض اليقظة إلى الرجل المسن المتعب، ويحس كأن هناك من يوجه له الاتهام، وينظر حوله كمن يطلب شهادة الآخرين بأنه قد دفع، يعلو صوت السائق مجدداً لا تخليني أحرجك اللي ما دفع يدفع، ولا حياه لمن تنادي.
ولكن الرجل المسن يتفصد وجهه بالعرق، وتبتل أطرافه، ويصفر وجهه، وينظر حوله متسائلاً طالباً النجدة، ويقول بصوت أجش مخنوق العبرات: والله العظيم دفعت، وكأنه يكاد يبكي ويده تمتد إلى السائق بالأجرة مرة أخرى.
يضحك السائق بطريقة فيها قدر من جنون الشارع، وقدر من استهتاره، ويقول: أنا ما بقصدك يا عم أنا عارف أنك دفعت أول ما ركبت السيارة.
يبرد العرق على وجهه المواطن المسن، وترتد بعض الحمرة إلى وجهه، ويعيد إلى جيبه النقود بيد مرتجفة لأنه نال البراءة من اتهام اعتقد أنه موجهه إليه، ولكن السائق يصر ويقول بعد أن ركن السيارة على جانب الطريق: اللي ما دفع الأجرة يدفع أنت يا أخ ليه ما تدفع، الأخ يقول: أنا رح ادفع، كنت أظنني دفعت، جل من لا يسهو أنا كل يوم بركب سيارات عمومي وكل يوم بدفع، وربما اختلطت مع زحمة السير برأسي الأيام، وافتكرت امبارح اليوم واليوم غدا، لأن كل الأيام بتشبه بعض، وهي أجرتك وفوقها بوسة، بس لا تكثر حكي، وكمل طريقك لاننا تأخرنا عن الوصول، فرد السائق انا رح أكمل مشوار ومادمت أنت اعتقدت انك دفعت الأجرة امبارح عن اليوم، إنا بعتقد انك امبارح وصلت بدل اليوم، مستغرب بالناس تستبدل الماضي بالحاضر وتنسى حاضرها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق