مكتبة الأدب العربي و العالمي

بنت الدارز الجزء الاول والثاني

كان يا ما كان حتى كان، الخير في كل مكان؛ والريشة تغلب الميزان، والأعمى يتجاوز الحيطان، كان حتى كان..

ذات زمان في قرية بعيدة، كل السبل تقود إليها. كان الناس يمنون النفس بزيارتها، فقد ذاع صيتها في كل البقاع، وعرفت بأرض الخير وأكرم الخلق.. في القرية تعيش بنت ضريرة مع أبوها نساج الحصائر والألبسة الشتوية وحيدين في منزلهما، بعد رحيل الأم عند ربها، وجد الأب نفسه وحيدا في المشوار، لا معين من غير الله. كان إنسان طيب المعشر نال حب وتقدير الجميع، وتولى الإعتناء بطفلته الضريرة، التي أخذ الله بصرها وعوضها البصيرة والفراسة، ومثل والدها فقد كانت البنت على محاسن الخلق ومكارم الطيبة.. كانت تساعد والدها في عمله بما استطاعت من مجهود..

كان الدراز (النساج) يقصد السوق على متن حماره محملا بما نسجت أنامله لبيعه هناك؛ ثم يعود في آخر النهار قبل سكون الليل، ليجد ابنته قد أعدت الطعام واهتمت بأمور منزلهما.. وذات يوم مرض الدراز وتهدمت قواه، فما عاد قادرا على التوجه إلى السوق وبيع بضاعته، فعرضت عليه ابنته الضريرة أن تتكلف بأمور السوق رغم علتها، وافق الوالد على مضض، فلا حل آخر بديل وإلا السعادة ستنقلب جوعا..

تولى الأب العمل في المنزل في نسج الحصائروالألبسة ، بينما انصرفت الضريرة في بيع المنتوج في السوق؛ كان الحمار يعرف سبيل السوق، فيكفي أن يحمل بالبضاعة وتمتطيه بنت الدراز فينطلق الحمار في سبيله حتى يتوقف، آنئذ تعرف بنت الدراز أنها ولجت إلى السوق.

كان جميع التجار يعرفونها؛ فلا أحد يخون أمانتها ولا الغدر بها، وتسارع الجميع في مساعدتها.. هكذا دواليك توالت الأيام وبنت الدراز تبيع في السوق ما نسج والدها،
وترجع الى البيت سالمه

وكَانْ كُلّ لِيلَة بَعْد الْعشَاء يَقُولْ:
– الله يْفَرّشَكْ يا بنْتِي بالرّضَى ويغَطِّيكْ بالرّضَى.
واسْتَمَرّ الْحَال هَكْدَا، الدَّراز يخْدَمْ في الدَّار بِالصَّحَة لِّي بَاقْيَة لِيه، وبنْــتُ تبِيعْ فِي السُّوق، وفِي الْعشِيّة ترْجَع بِالصّرَايْر لِيه، عَايْشِينْ فِي الْخِير والْخْمِير(الرَّفَاهية)…
يتبع

النصف الثاني
—————-

وذات مساء وأثناء سبيل عودتها من السوق؛  فجإة تلبدت  السماء بالغيوم ، وهي تنذر بعاصفة آتية، فقصف الرعد مزمجرا وارتعب الحمار فانطلق على متنه بنت الدراز إلى خندق الغابة، ولم يتوقف حتى دقت الساعة منتصف الليل . كانت بنت الدراز لا تدري مقامها لعلتها؛ بينما توجس والدها من تأخر ابنته على غير عادتها، فخرج لتقفي آثرها رغم وهن قوته سائلا الناس إذا صدفوها، ولا أحد أشفى غليله فعاد خائبا. وقال في نفسه : إن ما طال بنتي من أذى سببه اللصوص الطماعين في بضاعاتها .
بح صوت بنت الدراز وهي تنادي على النجدة في أحشاء الغابة، فلا سامع مناداتها سوى ربها، وبكت على حالها وحال والدها وعلى مصابهما، حتى جفت دموعها وآلت مستسلمة لمصيرها، فربطت حمارهاعلى  جدع شجرة، ثم افترشت الأرض ونامت على آمل أن يمر عليها في الصباح حطاب أو أي قاصد للغابة.. مع استيقاظها لم تجد سوى صوت الطيور والرياح تحرك أراق الأشجار، ركبت الحمار تاركتة مصيرها في يد الله؛ فانطلق الحمار نحو  المجهول حتى توقف أمام منزل يركن وحيدا في الغابة. فنادت بنت الدراز قائلة : يا أهل المكان، أنا ضريرة مسني الضر وتهت في الغابة، وأضعت سبيل العودة إلى والدي..
رد عليها صوت إمرأة عجوز : يا ابنتي إن مصابك مصابي، وإذا كنت بعيدة عن والدك، فكذلك أنا بعيدة عن ابني؛ فأهلا بك في منزلي..
ربطت بنت الدراز حمارها، ودخلت إلى منزل المرأة العجوز.. كانت المرأة أيضا ضريرة تعيش لوحدها، بعدما ذهب ابنها إلى بلاد بعيدة لجلب دواء لبصرها؛ فلم يعد منذ رحيله، ومازالت العجوز بانتظاره رغم تعاقب الأشهر والسنين. كان عندها في المنزل طير في المطبخ يساعدها في الطبخ؛ والقط في غرفة النوم يتكلف باخلاءها من الحشرات، والكلب يحرس الباب ويأتي بالحطب، كل هذه الحيوانات دربهم  ابن العجوز لمساعدة والدته الضريرة أثناء غيابه.
عاشت بنت الدراز مع المرأة العجوز في سعادة وكرم رغم علتهما معا..
ذات ليلة رأى الدراز في المنام، أن ابنته حية، ترافق امرأة ضريرة مثلها.. ذهب عند الفقيه لتأويل رؤياه لعله خيرا وبشرة.. قال الفقيه : إن رؤياك صادقة أيها الدراز؛ وبنتك حية ترزق صحبة إمرأة ضريرة مثلها، لكن مكانهما لا يعرفه الخلق سوى الخالق.. عاد الدراز إلى منزله سعيدا بتأويل الفقيه وزاد آمله في لقاء الغائبة ابنته..
ذات يوم غاب الطير فتبعه القط ثم لحق بهم الكلب، ووجدت بنت الدراز الحمل كله عليها.. أما المرأة العجوز فقد بدأ المرض ينال منها حتى غدت طريحة الفراش . كانت بنت الدراز مع طلوع الشمس تنصرف لأشغال المنزل حتى غروبها؛ تحطب وتكنس وتطبخ، وهي في نفسها ترد الخير للمرأة العجوز التي أحسنت إليها.. زاد المرض على المرأة العجوز، وعندما شعرت بقرب أجلها؛ نادت بنت الدراز وقالت لها : انت نعمة البنت يا بنتي؛ فلا أعرف كيف أجازيك على خدمتك لي.. أمينة الأسرار ونبل الخلق أنت يا بنيتي، لذا قررت أن أعطيك أغلى وأنفس ما بحوزتي؛ هذا خاتم مذهب كنت قد خبأته حتى عودة ولدي، لكن الظاهر أن السبيل الذي أخذته لن تعيده من جديد..

من قصص حكايا العالم الاخر

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق