أخبار عالميهالرئيسية
كوريا الشمالية و«كورونا»… وقصة فرار السجّان مع السجينة
كوريا الشمالية بلد محفوف بالغموض والالتباس والضبابية. وبقدر التكتم الشديد الذي يَسِمُ أحوال البلد، بقدر ما تنتشر حوله الإشاعات والحكايات العجائبية التي يتولى مسؤولون هناك أحيانا تفنيدها وادعاء بطلانها.
ومن هنا، فتعامل وسائل الإعلام العالمية تجاه بلاد الزعيم كيم جون أون، ذي القبضة الحديدية، يتباين ما بين منحاز إلى أسلوب تدبير الحكم ونمط الحياة العامة هناك في ظل حصار دولي مطبق، وما بين مُنتقد لأوضاع الناس المعيشية والحقوقية والاجتماعية.
وبينما تظل أنفاس العالم مشدودة إلى فيروس «كورونا» الذي ينتشر انتشار النار في الهشيم، تحاول كوريا الشمالية التأكيد ـ من جديد ـ أنها تشكل الاستثناء، عبر إثبات خلوّ مواطنيها من أي إصابة بالفيروس المرعب لحد الآن. مصادر إعلامية تُرجع ذلك إلى الصرامة الشديدة التي تتعامل بها سلطات البلاد مع حركة النقل والسفر، علاوة على العزلة الدولية المفروضة عليها. لكن قناة «الحرة» الأمريكية ـ عبر موقعها الإلكتروني ـ أوردت أن سلطات بيونغ يانغ قامت على عجل بحرق جثامين 12 شخص من مواطنيها، كانوا خاضعين للمراقبة الطبية بأحد المستشفيات، لوجود شكوك حول احتمال إصابتهم بالفيروس المدمر. وشمل الإعدام أيضًا ـ في وقت لاحق ـ مسؤولا تجاريا من البلد نفسه، بتهمة توجّهه إلى حمام عمومي، في الوقت الذي كان ينبغي أن يبقى رهن الحجر الصحي.
مصادر إعلامية مختلفة تُفيد أنه في ظلّ ضعف التجهيزات الطبية، تبقى العزلة الحل الأمثل لتجنب أهوال الفيروس. ولذلك، فرضت كوريا الشمالية رقابة شديدة على حركة السياحة، رغم ندرتها، وأغلقت المنافذ في وجه بعض البلدان الجارة التي تشكو من الفيروس القاتل، خاصة الصين، كما حدّت من تنقل ممثلي البعثات الدبلوماسية داخل البلاد، وقيّدت التحرك في الأماكن العامة، وعلقت عودة التلاميذ إلى المدارس.
قصة ناقصة أم عمل غير متوازن؟
بيد أن سلطات «بيونغ يانغ» لم تبق مكتوفة الأيدي، وإنما استنجدت بأصدقائها القليلين ومن بينهم طبعا الروس، فقد استجابت موسكو لطلب جارتها بإرسال معدات طبية لمواجهة خطر الفيروس، ومن ضمنها أساسا أجهزة تشخيص سريع، وفق ما أفادت تقارير صحفية أول أمس (الأربعاء).
العلاقات السياسية والاقتصادية المتبادلة بين البلدين لها تأثير على الجانب الإعلامي. مثال ذلك، أنه منذ بضع سنوات، بثّتْ قناة «آر تي» الروسية متعددة اللغات فيلما وثائقيا بعنوان «الجمهورية الغامضة»، بَدَا في معظمه محكوما بنظرة إيجابية تجاه كوريا الشمالية، حيث تحدث عن تجربة سياسية فريدة ما زالت مستمرة منذ 70 عاما، في ظروف عزلة تامة وخضوع المجتمع بشكل مطلق لقائده. إنه بلد نامٍ في حالة حرب يفتح أبوابه ـ ولو بحذر ـ أمام المستثمرين والسياح. ومع ذلك، يبقى ذا طبيعة غامضة، كما يشير إلى ذلك الفيلم الوثائقي، مُبرزًا السياسة الدفاعية التي تنتهجها كوريا الشمالية ضد التأثير الخارجي «الفاسد»، لاسيما من لدن الليبرالية.
العمل التلفزيوني المذكور سلط الضوء على الاهتمام بالعلماء وبأوضاعهم الاجتماعية، وأبرز الحماس الوطني لدى العمال والمزارعين. لكن الجدير بالانتباه أن مُعدّة الفيلم الوثائقي، الإعلامية الإسبانية «أنغيلا غالاردو برنال»، استعانت بأحد أبناء بلدها الذي يرأس جمعية «أصداء كوريا الشمالية» في بيونغ يانغ، حيث رافقهم في الرحلة، وأدلى لهم بتصريحات كلّها إطراء، واختار لهم عيّنة من المُستجوَبين الذين أدلوا بتصريحات إيجابية محكومة بالهاجس الوطني، تُمجّد الزعيم وتًعبّر عن الاعتزاز بالنظام الاشتراكي. وعَزَا الفيلم الوثائقي ذلك إلى تأثير التربية الإيديولوجية والإخلاص للنظام، وهي عملية تبدأ منذ سنّ مبكر للأطفال. كما قدم الفيلم أمثلة عن النمو الاقتصادي للبلد، حيث «سُمِحَ» لفريق التصوير ـ كما وَرد في التعليق الصوتي المصاحب ـ بالتقاط صور من بعيد لعدد من المنشآت قيد البناء: بُرج سكني جديد للمدرّسين، ومبنى جديد في المطار، وإعادة بناء ملعب رياضي وفندق فخم…
ورصدت كاميرا القناة، أيضا، مَشاهد مفعمة بالجوانب الإنسانية الحارة، تتعلق بلقاءات بين عائلات كورية فرّقتها الحرب لسنوات عديدة ما بين الشمال والجنوب، إذْ يلتقي مَن تمكّنوا من التعرف على بعضهم البعض على الحدود، ويمكثون هناك مدة ثلاثة أيام.
الطريف واللافت للانتباه أن الفيلم الوثائقي عَكَسَ الصرامة المفروضة في كوريا الشمالية حتّى على المعطيات الجمالية المتعلقة بالذوق الشخصي وبالموسيقى والملابس… ففي صالونات الحلاقة تُوجد صُورٌ فوتوغرافية للاحتمالات المقترحة، وتحتل فيها المرتبة الأولى تسريحة قائد البلاد. تصريح الإسباني الذي يرأس جمعية «أصدقاء كوريا الشمالية» يُرجع ذلك إلى عدم السماح بأيّ تأثير من الموضة أو الموسيقى الأجنبية. المسألة ـ باعتقاده ـ لا تتعلق بالرقابة، فالمواطنون لا يمكن أن يكتبوا أو يُنتجوا أعمالا إبداعية تتعارض مع الأيديولوجيا السائدة، وإنما الأمر يتعلق بوضع سدّ منيع أمام كل ما يأتي من الخارج.
ومن الغرائب أيضا في ذلك البلد، أن الإنترنت غير موصول بالشبكة الدولية، إذ تقتصر المسألة على العلماء فقط، والذريعة التي تقدم في هذا المجال رفض الدعاية والجنس المروّج لهما عبر أمريكا، وليس مصادرة الحق في التعبير وفي تلقّي المعلومة.
انتهى الفيلم الوثائقي مُكرّسًا نظرة أحادية، وغابت وجهة النظر الأخرى. مبرّر صانعيه الذين لم يمتلكوا القدرة على الاختراق، يكمن في عدم وجود الصوت المُغاير داخل البلد. ولكنْ، ألم يكن في الإمكان البحث عنه خارج الحدود؟ أليس هناك معارضون يمكن أن يقدموا رواية مختلفة لما يجري هناك، من أجل ضمان قدر كبير من الموضوعية والتوازن؟
جاء في نهاية التعليق الصوتي المصاحب: «كنا نفكر أننا سنتكشف أسرار البلد الأكثر انغلاقا في العالم، لكن الحاجز غير القابل للاختراق الذي يفصلنا عنهم يجعل قصتنا عن هذا البلد غير منتهية بما في ذلك تلك التي شاهدتموها للتو. ينقصهم جميعا للوصول إلى الموضوعية ملايين الأصوات والآراء. يمكن فقط أن تخمّن حقيقة ما يجري في ذاك البلد البعيد تحت قيادة المارشال.»
لا يا سادة! لا يمكن التخمين، وإنما كان من الأجدى بذل مجهود أكبر في تحري المعلومة لدى أطراف أخرى. ذلك هو العمل الاستقصائي المطلوب في هذا النوع من الأفلام الوثائقية، وليس الاكتفاء بالنظرة السطحية للأمور.
السجينة والسجان… بحثا عن عبق الحرية!
قناة «بي بي سي» تلقّفت المسألة، وملأت تلك الحلقة الفارغة، حيث بثّتْ منذ بضعة أيام تحقيقا قصيرا، يتضمن قصّة مثيرة عن فرار سجينة وسجّان شابّين من كوريا الشمالية، إذ تمكّنا من اجتياز الحدود، بطرقهما الخاصة، تحدوهما في ذلك مشاعر الحب والرغبة في تنسّم الحرية والاستمتاع بعبق الحياة. كان أمرا مرعبا ومحفوفا بالمخاطر ـ يقول التحقيق التلفزيوني؛ مثلما حصل قبل سنوات لجندي من البلد نفسه، حاول الفرار فتعقّبه زملاؤه بالرصاص، وكان من ألطاف القدر أن أنقذه حرس الحدود في البلد الجار: كوريا الجنوبية.
قصص كثيرة ترويها وسائل الإعلام عن القبضة الحديدية التي تحكم البلاد، بعضها مرعب والبعض الآخر غريب أو أصعب على التصديق، من قبيل: اعتقال امرأة لأنها تركت صور الزعيم تحترق وفضّلت إنقاذ ابنها من النار، وإيداع أحد العمّال السجن لكونه توقّف عن التصفيق للمارشال، وإنزال العقاب الفوري بأحد المصوّرين لكونه حجب بجسده الزعيم عن الجماهير لثوانٍ معدودات… وهلم جرا.
صدق من وصفها بـ«جمهورية الغموض»!
كاتب من المغرب
المصدر : القدس