الرئيسيةمقالات

زيارةُ التناقضات / رحلتي الى غزة

كتب البروفيسور الطبيب أسعد مطر

.

أعيشُ في روسيا منذ ثلاثين عاماً، زوجتي مواطنة روسية، ولي ابنان أحمد وأمير، زرتُ غزّة خلال تلك الأعوام ما يقارب سبع مرات، كان آخرها في العام الذي توفى والدي فيه 2013 أي قبل سبع سنوات، ولأني لا أنفكُ عن غزة، وكثيرُ التواصل مع أهلي وأصدقائي هناك، وأتابعُ أخبارها وصراعاتها وحروبها عن كثب، أي أنّ ميثاقي بغزّة غليظ، لذا فإن الحنين إلى أرضها وأهلها لا ينقطع البتة، ولكنّ الحقيقة أن التزاماتي في العمل ومع حجوزات مرضاي تجعل التفكير في زيارات متكررة لغزّة أمراً صعباً، خصوصاً أنّ هذه البقعة الصغيرة لا يربطها بالعالم سوى معبرين بريين، لا يمكن تجاوزهما إلا بتسجيل وحجز مسبق قد يستغرق أشهر قبل السماح لك بالسفر، وكمواطن أصله فلسطيني لا يمكنك الهرب من الإذلال المتعمد في كليهما.
ورغم كل ما ذكرته، غلبني الشوق وقررتُ المجازفة، إذن حان وقت زيارة غزّة وأهلها، أوقفت عملياتي قبل الزيارة بعشرة أيام، لنفس السبب، لأن ما من وسيلة وصول سريعة للمرضى في روسيا فيما لو -لا سمح الله- طرأت أي مضاعفات، وحجزت تذكرة الطائرة، سأصلُ مطار القاهرة، الاثنين 6-1-2020 الساعة الواحدة صباحاً، ودفعتُ لشركة ال VIP المصرية التي ستوصلني بالسيارة كما قالوا -سريعاً!- إلى غزة، مبلغاً ضعف تذكرة الوصول عبر الطائرة من روسيا لمصر، وما عرفتُه بعد التجربة، بأنّه يمكنك أنّ تلف العالم بالطائرة أسرع من الوصول إلى غزة براً عبر مصر، لا يهمني، الأهم هو أنّي سأزور غزّة.
“يومُ الوصول”.
لمّا وصلتُ مطار القاهرة، كنتُ أحمل ثلاثَ حقائب، إحداهن أضع فيها أدواتي الجراحية المُعقّمة ومستلزمات العمليات التي سأُجريها للمرضى في غزّة، سألني عنها ضابط التفتيش في المطار، وأجبته بأنّي طبيب فلسطيني الأصل، أحمل الجنسية الروسية وأذهب لغزّة كلما أتاحت ظروفي، لأساعد المرضى هناك، ولكنه أجاب بما دعاني للضحك، قال: يعني حضرتك ما رح تستخدم هي الأدوات عندنا؟ لأنّه بنخاف تنقلنا فيروس Hepatitis C!!
ضحكتُ وقتها، ولم أرد سوى أنها تُعقّم ثلاث مرات في مستشفايَ، ومرة أخيرة في البلد التي أزورها.
خرجتُ من المطار، وكان في انتظاري سائقُ ال VIP الذي سيوصلني إلى معبر رفح البري، وصلتُ المعبر بعد 10 ساعات، وكنتُ منزعجاً جداً، ولكنْ على رأي المثل الدارج، “إللي بشوف مصيبة غيره بتهون عليه مصيبته”، ولما عرفتُ أنّ أهل غزة يصلون خلال مدة يومين أو ثلاثة، استغربت وسكتت، وخطر لي أنّ ال VIP لا يمنع الإذلال عنك، ولكنّه يخففه، وفي النهاية الفكرة كلها إذلال.
وأول شعور لي في غزة، كان مع أول متر تجاوز فيه الباص الحاجز الفاصل بين غزة ومصر، شعرتُ بأنّ الهواء رطبٌ ومنعش، ربما كان نفسياً ذلك أكثر، ولكني حقيقةً شعرتُ بذلك، هواءُ غزّة كلّه سكينة وأمان، ربعُ ساعة فقط في الجانب الفلسطيني الرقيق النظيف وكنتُ خارج المعبر في سيارة أخي متجهاً إلى بيتنا.
“الوصول للبيت”.
عند مدخل البيت في الشارع، الكثير من الصغارٌ لا أعرفُ إلا أسماءهم ذكراً في انتظاري، يصفقون ويسلمون بكل الحب الذي خلقه الله، “شو اسمك؟ كذا.. آه إنتَِ كذا ابن كذا أهلاً وسهلاً”. الكثير من أحضان اللقاء والفرحة التي تغنيك عن كل رحلات الدنيا، طاقةٌ هائلة فيّ تجدّدت، طاقةٌ للطيران، فأنا الآن في بيتي الأوّل، في وطني الأوّل وبين أهلي، سلمتُ على الجميع، كبيرهم وصغيرهم بنفس النهم والشوق والحب وأحضان اللقاء ودموعه التي انهمرت، سنواتٌ طويلة من الغياب، هرِمَ الكبارُ وكبرَ الصغارُ، وصارت العائلة ممتدة لا يتسع لها بيت ولكن يتسع لها قلبي، ورقصتُ مع أمي وأهلي، مشاعرٌ لا يمكن وصفها، ولكن يمكن القول بأنّها أكبر فرحةٍ عشتها، جبالٌ من الحب، لأجل هذا أجازف وأخاطر وأترك كل التزاماتي، لأجل الياقوت تهونُ المخاطرة في أعماق المحيط.
ثم في صباح اليوم التالي، زرتُ قبر أبي وجدّي وجدّتي ووسام بنت عمتي، رحمهم الله جميعاً، هذه الجذور التي ربطتني بهذه الأرض، كم كنت أتمنى لو كانوا مع من استقبلوني ليكبر الفرح أكثر، ولكنها أحكام الدنيا، وما لنا إلا الدعاء لهم.
“أيامُ الزيارات”.
أربعةُ أيام، كنت أستقبل فيها زواري، من أهلي وأصدقائي وأصدقاء أخوتي، كما العادات، نجلس في مكان نستقبل فيه ناسَنا، سلمت على أكثر من ألف في تلك الأيام، أجواء من التقدير والحب، هذه غزّة، الوئام والتآزر، الكُلّ حولك، وهو شعور لا تجده في أيّ مكان في العالم، وأدركتُ بأنه لا يمكنك أنّ تسحب هذه الجموع معك حيث تقيم، ولكنّك تستطيع أنّ تكرر زياراتك، لتحظى بهذه الوجوه الطيبة حولك، سمعتُ القصصَ من أصحابها، بانفعالاتها الأولى، ورأيتُ كل الألوان والأحزاب عندي، مكان صغير جمعنا، أتضيق فلسطين بنا؟ كلا، أنا من هنا، فلسطيني ولا أنتمي لأحد، ولأن الكل باختلاف الآراء ينتمي لفلسطين، جاء الجميع لزيارتي، رأيتُ الكل باختلافاتهم، وسمعتهم، والكل فلسطيني وإن توشّح بلونه الخاص، وفلسطين أكبر منا جميعاً.

“أيّام العمليات الجراحية”.

تقدّم لفحص العيادة المبدئي أكثر من خمسين مريضاً، وكنتُ أحاولُ أن تشمل قائمة العمليات مرضى من الحالات الخاصة والمعقدة، وممن أُجريَت لهم عمليات مسبقاً وفشلت، وممن نُصحوا بالخروج من غزّة لإجراء العملية، وذلك تخفيفاً عن الناس، أجريتُ تسعةَ عشر عملية جراحية متعلقة بالتشوهات والعيوب الخَلقية في الأعضاء الذكورية، وتمنيتُ لو كان هناك متسعٌ في الوقت أكثر، لتشمل القائمة الجميع، أربعة أيام متواصلة، نخرج الساعة الثامنة ونعود عند العاشرة مساءً، وقدْ جرّبت للمرة الأولى انقطاع الكهرباء ولو للحظات داخل غرفة العمليات، وفي إحدى هذه المرات استمر لدقيقتين، أكملت على ضوء كشّاف الجوال، كل شيء في غزّة لا يشبه غيرها، وهنا أود الإشارة لشيء مهم، وقد أخبرتُه لاحقاً لأصدقائي، في أي مكان أذهب لإجراء العمليات فيه، صار لزاماً عليّ أنّ أستريح بعد العملية الثانية وذلك لأني أعاني من آلام في الرقبة والضهر، أما في غزّة، فإنّي بعد كل عملية كنتُ أُجريها، أخرجُ لأهل المريض لطمأنتهم وعرض الصور الخاصة بالحالة قبل وبعد الجراحة، وأسمعُ دُعاء الأهل لي، وأرى الفرحة على وجوههم، ثم أُشحن بالطاقة من جديد، وأعود للعملية التي بعدها كأنّها أول عملية في اليوم، كان يمدني الله بالقوة الكافية لأُكمل، وكنتُ مرتاحاً نفسياً ومطمئناً، أكثر من أي وقت مضى، ولكن، هنا لا بد من عتاب جاد وتساؤل، أين زملائي الأطباء من نفس التخصص؟ أُعلن عن وصول وفد روسي لإجراء عمليات متعلقة بالمسالك البولية، لماذا لم تأت وفود من داخل غزّة لغرفة العمليات -أضعف الإيمان- لنتعرف؟! العالم يجري سريعاً، وغزّة بعيدة جداً عما وصلت إليه التخصصات، وكل يوم هناك أوراق علمية وتقنيات جراحية جديدة تُنشر، وأنتم في غزة الأحوج لما هو جديد، وللوفود لتبادل الخبرات والتعلّم منهم، آفةُ العلم النسيان وكذلك المكابرة والتكبر، يتعلم الإنسان يومياً أشياء جديدة ممن حوله، وجميعنا لم يؤتَ من العلم إلا قليله، لذا فهذه نصيحة من أخ وزميل يغار على مصلحتكم ومصلحة مرضانا، تتبعوا الوفود القادمة من الخارج، فإن كان علمهم جديد استفدتم، وإن كان مألوفًا عندكم أيضاً استفدتم بحضوركم ولقائهم وتعزيز ثقتكم بأنفسكم، وهي قاعدة لأي جراح بأنّ لكل منّا طريقته في المهارات الجراحية، لذا فدخول الجراح العمليات سيستفيد مع كل مرة ولو بطريقة ربط خيط جديدة، وهنا أشكر الأطباء من ذات التخصص الذين حضروا للاستفادة، وعددهم أربعة فقط من كل القطاع، وأتمنى لهم التوفيق دائماً، كما وأشكر طواقم مجمع كمال عدوان الطبي إدارة وطاقماً ملازماً في العمليات، لتقديمهم ما أمكنهم من أجل تذليل العقبات والخروج بأعلى درجة نجاح ممكنة، وأشكرهم على التكريم، ورغم أنّي قلتُ بأنه لا حاجة للإنسان أن يُكرّم وهو في بيته وبين أهله وما قدمه ليس إلا القليل.

“رحلة الذكريات.. مخيم الشاطيء”.
ولدتُ وترعرتُ في مخيم الشاطئ، أحفظ أزقته وناسه ومحلاته، لذا كان لا بد من زيارة تفصيلية لهذا المخيم العظيم، ذهبتُ صباحاً رفقة أخوتي، وبدأتُ أتفحص الأزقة والحيطان، وفي مخيلتي “أنا” لما كنتُ أجري حافياً هناك، وألعب، تغيرت المباني وارتفعت، ولكن لا شيء يغيّر الذكريات في داخلي،
هنا كان بيتنا، وكان بيت جيراننا كذا هنا وهناك، وهنا قهوة غبن، وهناك فلافل بعرة وأكلتُ منه من جديد، وهنا عضّني الحصانُ، ومن هنا كنت أجري إلى البحر، وهنا كان أبي يركنُ سيارته، وهذا نادي الشاطيء، مرّ شريط طفولتي أمامي، وصرتُ أحدّث أخوتي ما آراه في الذاكرة، إنّ أجمل ما قد يشعر به الإنسان أن يجد ما يلامس قلبه برفق، يتحسسُ طفولته، يعيده إلى أيام بلا مسؤولية معينة، إلى بساطة الناس وحبهم وتعاونهم، بدون تكلف، واللهِ إن مخيم الشاطيء بثّ فيّ طمأنينة لم أعهدها في أي مكان في العالم، وقد زرتُ أكثر من سبعين دولة، ليس كمثل الراحة في زقاق واحد من مخيم الشاطئ، تعبنا وكافحنا وصرنا، ولكن هذا المخيم بالذات بناسه وذكرياته هو الأصل، وهذه البلاد عزيزة وستظل ولا يساويها شيء في الدنيا.
“لقاء أصدقاء الطفولة والدراسة والعمل”.
التقيتُ بأصدقائي، من جمعتني بهم الذكريات، وصرنا نفتش لبعض عن مواقفنا في الشباب، ونضحك، الكثير منهم صار طبيباً معروفاً ورئيساً لقسم ما، ولكن لقاءنا كان مجرداً من الألقاب والمسميات، فنحن نعرف بعضنا جيداً وكافحنا معاً وبيننا تفاصيل لا تُنسى ولا تُمل، فكان لقاء كله حكايات وذكريات وضحك، ولم يهمنا صوتُ القصف القريب جداً منا، حتى أنّنا سمعنا صوت الشظايا حولنا، وكان معنا طبيب يعزف على العود، وامتزج صوتُ الموت مع صوت الحياة، ولكن صوت الحياة أعلى، وأكملنا، وقلتُ لهم: حتى لو متنا الآن ما بهمني، لأنه حيكون آخر شي إلنا في الدنيا هو الضحكات والذكريات، وعدنا بعدها لبيوتنا سالمين، ولن يكون العشاء الأخير.
“الوداع على أمل اللقاء قريباً”.
ودّعت غزّة وأهلها، على أمل اللقاء قريباً مرة أخرى، وقد عشتُ أياماً لا تُنسى، كانت الأيام سريعة وحُبلى بالأحداث المتجددة، ومضت الزيارة سريعاً، ومع أنّي حاولت أنّ أبتعد كلياً عن التزامات العمل خارج غزة، لأنّي أريد أنّ أعيش في غزّة بكامل أجوائها، ولأنّه لا وسيلة للتدخل السريع فيما لو كان العمل خارجاً بحاجتي، فأردت ألا أعكّر صفوَ أيامي بين أهلي، وأن أكون معهم بكامل تركيزي لهم، وأتمنى من الله أنّ يغيّر ظروف بلادنا للأفضل وأن نعود إليها قريباً، وأن يتحسّن وضعُ معبر رفح، ويصير بدون إذلال ومعاناة لأهلنا، وأقول لشعب غزّة الصامد، سأحاول ترتيب زيارة في المرات القادمة لوفد من كافة التخصصات، ليساعد الناس ويخفف عنهم، ويعلّم أطباء غزّة، وينقل لهم خبراته، من أجل رعاية طبية أفضل لشعبنا.
في النهاية، أتمنى أنّ تموت الحزبية، وأن ترتفع راية فلسطين فقط، الوطن أكبر من الجميع، وكلكم أبناء فلسطين، اعملوا من أجل مصلحتها فقط، ومن عمل منكم عملاً فليتقنه.
دمتم وأعتذر عن الاطالة، ولكنّها مشاعري التي فاضت فرحاً بغزّة ولقائها، وافر التحية والاحترام والحب للجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق