الرئيسيةمقالات

الرجل الذي ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد

بقلم مصطفى بشارات

إنه حسان فتحي محمد البلعاوي من مواليد نابلس في 20 تموز عام 1965، ومع أن والده المرحوم (أبو غسان) من قرية بلعا بمحافظة طولكرم، إلا أن مولده كان في نابلس التي تتحدر منها والدته السيدة (زاهرة) أمد الله في عمرها.

لمن يريد أن يغبط أحدا على نجاحه؛ أو على الفرص التي أتيحت له، يمكنه أن يفعل ذلك مع حسان البلعاوي، ضيف الحلقة 17 من برنامج (من هناك)، فهو من ينطبق عليه وصف (الرجل الذي ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد)؛ فقد دخل سلك الدبلوماسية، ومهنة الصحافة، ومجال الكتابة، من بوابة الترجمة، وهذا يؤكد أن هذا الحجر (الترجمة)، واللغة عموما، لا يخطئ أبدا، وهو (جوكر) يكسب دائما عند كل الذين حددوا هدفا ويسكنهم دائما طموح التقدم والنجاح.

ومع الترجمة، هيئ لضيفي في عمله، وهذا نادر الحدوث في عالمنا العربي الذي يغلب على مؤسساته نهج بث الإحباط ومحاربة المبدعين، مجموعة من المسؤولين أتاحوا له الفرصة تلو الأخرى ساهمت جميعها في إطلاق طاقات الإبداع الدفينة لديه، وعملت على صقلها، خصوصا في العمل الإعلامي.

خلال ذلك لا يمكن إغفال حالة النهوض الوطني، ذي البعد الوحدوي والمسؤول الذي عاش البلعاوي أجواءه وتشرب قيمه سواء في إطار الحركة الطلابية الفلسطينية أو صفوف حركة فتح عندما كانت نموذجا يحتذى لنجاح التعايش بين القوميين واليساريين والإسلاميين، ومثالا حيا على العلمانية التي جسدتها فتح ببعدها الحضاري، والوطني، والديمقراطي، والاجتماعي!

في خضم ذلك ليس صعبا لمن يمتلك، حتى ولو قدرا يسيرا من الحصافة والعين الثقافة، أن يرى أثر فرنسا ومبادئ ثورتها، الحرية والمساواة، في شخصية حسان الذي أتيح له، وهو يغبط على ذلك فعلا، الدراسة في السوربون – وما أدراكم ما السوربون – كما تلقى دورة في أهم المدارس الفرنسية للإدارة، وتدرب أيضا في المكتب الإعلامي في متحف اللوفر.

مع كل ما سبق – وهذا تقديري الشخصي – فإن العامل الحاسم في تشكيل شخصية البلعاوي يبقى بالأساس لأسرته التي ترعرع في كنفها؛ فوالداه مدرسان ويعود لوالده، والذي كني بـ (أبو الوطنية الفلسطينية)، الفضل في وضع النظام التعليمي لدولة قطر، وهذا الرجل (الأزهري)، والذي شغل وكيلا لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية في بدايات تشكل مؤسسات السلطة الوطنية على أرض فلسطين، كان خطيبا مفوها ومن المؤسسين لرابطة الطلبة الفلسطينيين في القاهرة وتولى أمانة سرها وأصر، رغم موقعه القيادي وقتها في جماعة الإخوان المسلمين، على أن يتمثل القوميون والمسيحيون والشيوعيون في مجلسها الإداري، ومن هنا أحبه الشاعر والمناضل الراحل معين بسيسو– ذلك الشيوعي الجميل – وتمنى لو كان رفيقا معه في الحزب الشيوعي الفلسطيني، خصوصا وأن (فتحي محمد البلعاوي) نجح في تأسيس نقابة للمعلمين في غزة فيما فشل الشيوعيون في ذلك، وهو أمر أكد عليه بسيسو في كتابه (دفاتر فلسطينية)، ولمن يريد أن يعلم أين كنا وأين أصبحنا، أين أخطأنا وأين أصبنا، وما هي الفرص الثمينة التي أضعناها، عليه أن يقرأ هذا الكتاب، وسيجد فيه سياسي – واقعي يكتب بلغة الشاعر ويساري حقيقي يمارس نقد اليسار على خلاف كثير من اليساريين، وسيكتشف كم ظلم هذا الشاعر الفذ!

في تلك الفترة – فترة الدراسة في مصر – تعرف البلعاوي الأب على ياسر عرفات – لولب الحركة ودينمو التنظيم – وأسهما معا في إعطاء دفعة كبيرة للحركة الطلابية الفلسطينية.

ليس بعيدا عن كل هذه الظروف والمعطيات، نما وترعرع الابن حسان البلعاوي، الدبلوماسي والإعلامي والكاتب؛ لذا عندما تقابله، حتى لو كان ذلك للمرة الأولى، تستطيع الحكم عليه دون تردد بأنه رجل متحضر، دمث الأخلاق، وطني، ولا يخلو سلوكه من مسحة ليبرالية يصعب عليه إخفاؤها، وربما بسبب هذا، وقبله بسبب كل ذاك الذي سبقه، استطاع أن يدير باقتدار دفة حياته اليومية ويجمع خلالها في شخصه بين صفات الدبلوماسي والإعلامي والكاتب في آن.

كلام كثير يمكن أن أقوله بحسان، لكن ثمة هناك الأبرز الذي لفتني، وهو تحديدا منطق الخطاب الذي استطاع بوساطته الحديث للغرب خصوصا في بلجيكا ولوكسمبورغ حيث يعمل مسؤولا للعلاقات الثنائية معهما في سفارة فلسطين في بروكسل، وهو منطق بسيط تأسس على مخاطبة الغربيين باللغة التي يفهمونها، لغة تتشكل من تاريخهم وتقارب ثقافتهم، ومن هنا حاز كتابه (غزة والحركة الوطنية الفلسطينية) بنسخته الفرنسية على إعجاب ومتابعة فرنسية وغربية لافتة.

من خلال الكتاب ذاته، وأصدر نسخة أخرى منه بالعربية كانت موسعة واستوعبت اهتمامات الفلسطينيين والعرب، أثبت حسان البلعاوي للاسرائيليين أننا، نحن الفلسطينيين، يمكننا أيضا، لو أردنا، ممارسة (رياضة النقد الذاتي) لتاريخنا!

في كتابه (غزة والحركة الوطنية الفلسطينية)، لم يبالي حسان بالمناطقية، وهو ابن بلعا في الضفة الغربية، ولم يأبه للهجوم الإعلامي الذي توقعه وحصل، فعبر جغرافيا الضفة والتحم بغزة، ومارس النقد التاريخي وغرد خارج السرب، وتحدث في الكتاب عن مركزية قطاع غزة في القضية الفلسطينية منذ عام 1948، وأظهر، وبالوقائع، أن المشروع الوطني الفلسطيني يبدأ بغزة، ثم ينتقل للضفة!

حسان البلعاوي، والذي له إسهامات عديدة ونشاط دبلوماسي وإعلامي وثقافي دؤوب تنقل فيه بين الوطن وأوروبا ومارسه أينما حل وحيث ارتحل، يعكف على إعداد كتاب يحمل عنوان (بلجيكا الفلسطينية) سيفرد فيه فصلا كاملا عن المناضل نعيم خضر، أول ممثل لـ م.ت.ف في بلجيكا واستشهد عام 1981، يعرض فيه للسبب الرئيس لنجاح خضر في نيل كل الشعبية التي نالها لدى البلجيك، وهي تجربة حري بالجميع الاطلاع عليها ومعرفة كيف يمكن أن يتضافر دور السياسي والدبلوماسي، والمناضل عموما، عندما يكون مثقفا!

شكرا لك حسان البلعاوي بحجم التنوع الذي تتنفسه (هناك) في بلجيكا.. وباتساع المدى الذي تحلق في زرقته (هنا) في فلسطين.

أما أنتم، يا كل المهتمات والمهتمين بالثقافة، ومتابعات ومتابعي برنامجي، أتمنى لكم أوقات ممتعة مع هذه الحلقة.

مودتي للجميع.

( م ب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق