مقالات

قلائدُ الفول بقلم: روز اليوسف شعبان

يأخذني موسم الزيتون الذي أنتظره كلّ عام بفارغ الصبر، إلى طفولتي السعيدة، حين كنت أذهب مع أسرتي إلى كرم الزيتون المشترك بيننا وبين أعمامي. كنت ألتقي هناك مع أبناء وبنات أعمامي، نساعد عائلاتنا في قطف الزيتون، ونخصّص بعضًا من الوقت للّعب على الأراجيح التي كنّا ننصبها على جذوع الأشجار. وبين الفينة والأخرى، كانت تنبعث نكات أعمامي وزوجاتهم، فنضحك جميعا، وتختلط الأصوات والضحكات ببعضها البعض، لتعزف لحنا خاصًّا لموسم القطاف.
عند الظهر كنّا نفترش جميعا الأرض، تضع أمي وزوجات أعمامي ما أحضرنه من طعام وشراب وحلوى مما لذّ وطاب، تتسابق الأيدي إلى الأطباق فنأكل بشهيّة وفرح، ثم نعود لمزاولة عملنا في قطف الزيتون.
اجتمعت وأفراد أسرتي ذات صباح في كرم الزيتون الذي ورثته عن والدي- رحمه الله-. لنتفقّد أشجارنا ونزيل الأعشاب الضارة التي نبتت حولها؛ لنضمن قدوم موسم مثمر ومبارك بإذن الله.
كان أحفادي الأربعة: مجيد جون باسل وألما، أكثرنا فرحا، فقد انطلقوا في الكرم يركضون ويمرحون بحريّة، كانت أصوات ضحكاتهم تنعشنا؛ فتبعث الأمل في نفوسنا؛ فنزداد نشاطا ونعمل بجدٍّ في تعشيب الكرم.
شيئا فشيئا بدأت أصواتهم تخفت، قلت لأولادي بقلق: لا أسمع صوت الأحفاد. أين ذهبوا؟
. قال ابني: هم هناك في الكرم المجاور يلعبون، انا أراهم من أعلى الشجرة
تركت العمل وذهبت لأطمئن عليهم، وجدتهم يلتقطون حبّات الفول الأخضر ويضعونها في قبعاتهم.
تساءلت في نفسي باستغراب: كيف نبت الفول في الكرم؟ من قام بزراعته؟ ألا يعلم زارعه أنّ نبات الفول يضر بالأشجار؟
قلت لأحفادي: هذا الفول ليس لنا، ولا يجوز لكم التقاطه.
قال حفيدي مجيد: هي بضعة حبيبات يا جدتي، لم نكن نعلم أن هذا الكرم ليس لنا. سامحينا!
قلت له: حسنا، عودوا للعب في كرمنا، وأنا سأقدّم اعتذارا لجيراننا أصحاب الكرم.
عاد أحفادي معي وبدأوا يلعبون في حبّات الفول الأخضر، تارةً يصنّفون حبّات الفول إلى مجموعات حسب حجمها، وطورًا يعملون منها بيوتًا.
قلت لهم: ما رأيكم أن يصنعَ كلُّ واحد منكم قلادةً من الفول؟
قلادة من الفول؟ قالت حفيدتي جون باستغراب.
قلت لها: نعم يا حبيبتي. حين كنت طفلةً كنت وأخواتي وإخوتي نعمل قلائدَ من الفول الأخضر ونشويه في الطابون ونأكله بعد شيّه، فهو لذيذ جدًّا.
كيف كنتم تصنعون القلائد يا جدتي؟ سأل حفيدي مجيد.
كنّا نحضر إبرة وخيطا، نغرسهما في طرف حبّة الفول، ثم ندخل الإبرة في باقي الحبات وهكذا حتى تصبح لدينا قلادة، فنأخذ القلائد إلى جارتنا لتشويها لنا في الطابون، ففي الماضي لم تكن هناك أفران من الكهرباء، وكان الناس يستعملون الطابون للطبخ والخبز والشواء.
وما هو الطابون يا جدّتي؟ سأل باسل.
وهو مدفون في الأرض الطابون غرفة صغيرة سقفها منخفض ومدخلها صغير للمحافظة على الحرارة في الداخل،
ومصنوع من الطين الأصفر المخلوط بالقش وله غطاء من حديد. كان يستعمل الطابون من الداخل للخبز والطبخ وشواء الباذنجان وتحميص حبوب القهوة، أما “ساس الطابون” وهو الجدار الخارجي المغطى بالرماد (السكن) فيستعمل لشي البطاطا والكستناء والبلوط والفول.
جدتي نريد أن نصنعَ قلائدَ من فول، أرجوكِ ساعدينا في ذلك!
حسنا يا جون، لكنّي أخشى عليكم من الضرر والأذى من الإبرة؛ فلا زلتم أطفالا ولا يجوز لكم اللّعب بالإبرة.
حسنا يا جدتي اذن اصنعي لنا انت القلائد. قال أحفادي بصوت واحد.
أمري لله. سأجهّزها لكم. أخذتُ استراحةً قصيرةً من العمل، أحضرتُ إبرة وخيطا من حقيبتي ، وبدأت بتحضير القلائد لأحفادي. وضعتُ في عنق كلِّ واحدٍ منهم قلادةً. فرحوا جميعا بالقلائد وبدأوا بتقبيلي.
ثم قالوا لي بصوتٍ واحد: متى سنشوي قلائدَ الفولِ في الطابون؟
لم يعُد وجودٌ للطابون في قُرانا يا أحفادي، إذ حلّ محلّه الفرن الكهربائيّ، وعندما ننهي عملنا في الكرم ونعود إلى البيت، سأقوم بشيّ الفول لكم في الفرن.
تابعتُ عملي في تعشيب الكرم في حين كان أولادي يقنّبون الأشجار بعناية.
عادت بي الذكريات الى طفولتي حين كنتُ أجتمع مع صديقاتي في أيام الشتاء الباردة، في غرفة الطابون؛ نتدفأ ونشوي البطاطا والفول والحمص، نتحدّثُ ونضحكُ ونقضي أوقاتًا ممتعةً معًا.
ذهب الماضي الجميلُ ولم يبقَ لنا منه سوى الذكريات وسرد الحكايات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق