أخبار عالميه
سياسة الصدم الروسية، هل ستستفيق أميركا من أحلامها أخيراً؟
لم يعد هناك أي مجال للشك بأن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد تعطي وزناً للمؤسسات الدولية وكل ما ينبثق عنها من قوانين وأعراف ولو حتى بالشكل. فمنذ انهيار الإتحاد السوفييتي وانفراط حلف وارسو ومنذ تلك الحقبة المزرية التي دخلت فيها روسيا في التسعينات، رسخت في رؤوس النخب الحاكمة في أميركا نظرية التفوق الإستثنائي “للأمة الأميركية” وهو ما أسس لتفردها في قيادة العالم بلا منازع. هكذا كانت الأمور تسير حتى منتصف العقد المنصرم، عندما بدأ نجم الرئيس الروسي بوتين بالصعود.
لقد كانت الحرب الجورجية عام 2008 أول جرس يقرع ويضع على المحك نظرية التفرد الأميركية. إنها المرة الأولى منذ انهيار الإتحاد السوفييتي التي تقف فيها روسيا بصلابة معاكسة للتيار الأميركي الجارف.
المخطط الأميركي كان يرمي آنذاك إلى إذلال روسيا من بوابة ابتلاعها لإهانة الجورجيين المدعومين بشكل مباشر من حلف الناتو وعلى رأسه الولايات المتحدة وأداتها الطيعة “إسرائيل”. لكن حساب الحقل الأميركي لم ينطبق على حساب البيدر الروسي فجاء الرد صاعقاً في عملية عسكرية معاكسة وخاطفة كادت أن تنتهي بدخول الدبابات الروسية إلى تبيليسي عاصمة جورجيا وخلع الرئيس ساكاشفيلي (كارازاي أميركا في جورجيا). ومن اللحظات الفارقة لتلك الفترة أنه أثناء تقدم القوات الروسية في الأراضي الجورجية نشر فيديو يظهر فيه ساكاشفيلي وهو يتابع بالهاتف تطورات الجبهة ومن هول الصدمة والذعر الشديد كان يبتلع ربطة عنقه كمن فقد عقله.
الصدمة الثانية كانت في أوكرانيا عام 2014 حيث دبرت الـ CIA مع أخواتها الأوروبيات انقلاباً أطاح بالرئيس الأوكراني يانوكوفيتش بعد أن غير قناعاته في اللحظة الأخيرة وامتنع عن توقيع عقد الشراكة مع الإتحاد الأوروبي واتجه إلى الرئيس بوتين معلناً عن بداية شراكة استراتيجية جديدة بين بلديهما بعيداً عن وعود الغرب الكاذبة. وكان المنتظر أميركياً من هذا الإنقلاب:
1. فصل أوكرانيا عن روسيا ووقف كل أنواع التعاون وفي كافة المجالات بما فيها الصناعية والتجارية والعسكرية وحتى الثقافية وتحويل أوكرانيا من بلد صديق لروسيا إلى بلد معاد لكل ما هو روسي.
2. ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو وبذلك تكون حدود الحلف وقواعده قد أصبحت على الحدود الروسية مباشرة.
3. طرد الروس من قاعدة شبه جزيرة القرم العسكرية التاريخية واستبدالها بقاعدة لحلف الناتو فيكون البحر الأسود بذلك بحيرة أميركية صرفة.
4. استخدام الأراضي الأوكرانية لزعزعة الوضع الأمني في روسيا وصولاً إلى إسقاط نظام الحكم فيها وتقسيمها إلى دول متشرذمة والسيطرة في نهاية المطاف على مواردها وثرواتها.
لم يكن الرد الروسي صادماً فحسب، بل مزلزلاً، فقد استطاع بوتين في أسابيع بعد الإنقلاب أن ينظم في شبه جزيرة القرم استفتاءً شعبياً تقرر فيه انضمامها إلى روسيا ووافق البرلمان الروسي على مشروع قرار تقدم فيه الرئيس بوتين إليه بقبول انضمام شبه الجزيرة إلى الإتحاد الروسي، لتنتهي بذلك أحلام الأميركان بالسيطرة العسكرية على البحر الأسود. كما قام بوتين بدعم المحافظات الشرقية من أوكرانيا التي رفضت الإنصياع لسلطات الإنقلاب المدعومة أميركياً. واستطاعت في فترة وجيزة (بالطبع ليس بدون مساعدة الروس الذين يشتركون مع هذه المحافظات بحدود برية تمتد لمئات الكيلومترات. ولا تزال هذه المناطق عصية عن السقوط في يد السلطات المركزية في كييف. وبهذا تكون أوكرانيا قد انقلبت من ورقة رابحة في يد الأميركان (حسب ما خططوا له) إلى ورقة قوة في يد روسيا. وما المراوحة في حل الأزمة الأوكرانية إلا بسبب الضياع الإستراتيجي الذي وقعت فيه أميركا بعد تحطم كل مخططاتها هناك وعدم قدرتها على الرضوخ أمام الأمر الواقع.
الصدمة الثالثة والأهم (وأستطيع أن أجزم بأنها الحاسمة) للهيمنة الأميركية كانت بالطبع في سورية. ونحن نذكر التصريحات الأميركية الصلفة حول حتمية سقوط “النظام” في دمشق بعد سلسلة مسرحيات “الربيع العربي” والتي دفعت الأميركان وأدواتهم في المنطقة إلى الإعتقاد أنهم في موقع الإملاء على الدولة السورية. وكان طلبهم الوحيد والغير قابل للنقاش هو تنحي الرئيس الأسد عن سدة الحكم وتسليم السلطة إلى الإخوان المسلمين عملائهم في مشروع الشرق الأوسط الجديد. وبالرغم مما قد يخيل للبعض من إهمال للسياسة الروسية للملف السوري، لكن الروس وبعد أن خدعوا من قبل الغرب في ليبيا، حيث تم استدراجهم لاستصدار قرار من مجلس الأمن بحظر الطيران فوق ليبيا بحجة الدفاع عن المدنيين وتبين لاحقاً أن الهدف كان إسقاط الدولة الليبية، فهوجمت ليبيا براً وبحراً وجواً من قوات الناتو تحت غطاء ذلك القرار الأممي الجائر وأسقطت الشرعية فيها واستحالت من بلد آمن مستقر إقتصادياً إلى بلد متشرذم تتناحر فيه مجموعات إرهابية من كل شكل ولون تمثل كل منها مصالح إحدى الدول المشغلة والداعمة لها. الروس بعد هذه الخديعة الفاضحة، كانوا متوجسين من تكرار السيناريو في سورية. فكانت مواقفهم تتصاعد بشكل تدريجي، من دعم سياسي ودبلوماسي إلى عسكري تسليحي، إلى أن تدحرج الصراع إلى مرحلة كسر العظم بين المجموعات الإرهابية المدعومة إقليمياً وعربياً ودولياً وقوات الجيش العربي السوري التي لم تكن مؤهلة وخاصة في البداية لخوض مثل هكذا صراع على امتداد الساحة السورية، في مدن وقرى مناطق سكنية مكتظة بالسكان. وكانت اللحظة التاريخية التي لم يحسب لها الأميركان بشكل جدي. كان ذلك في خريف عام 2015 عندما أعلن الرئيس بوتين بأنه وبطلب من الحكومة الشرعية في سورية، قرر دخول القوات الجوية الفضائية الروسية إلى سورية لتدافع جنباً إلى جنب عن الدولة السورية والشعب السوري ضد الحرب الإرهابية المدعومة من قبل أميركا وحلفائها وأدواتها في المنطقة. وأظهرت الأحداث لاحقاً أن هذا القرار كان قراراً استراتيجياً وتاريخياً في آن واحد. حيث أنه قلب الموازين في الصراع الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط حسب متطلبات مصالحها في المنطقة وتنفيذاً لاستراتيجيتها العميقة في تثبيت هيمنتها على العالم. لقد بات من الثابت أن أحد أهم نتائج دخول روسيا الحازم على خط الأزمة السورية هو ،بلا شك، فشل المشروع الأميركي للشرق الأوسط الجديد وإعلان اقتراب ولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب تحفظ فيه لكل الأمم حقوقها في الحياة الكريمة بعيداً عن التدخل في شؤونها الداخلية من أي طرف كان مهما كان شأن هذا الطرف أو وزنه.
الولايات المتحدة الأميركية بالطبع لم تكن لتغفر لبوتين كل هذه الضربات الإستراتيجية الموجعة، وما كل ما يحدث على الساحة الدولية اليوم من أحداث ومستجدات بين طرفي الصراع روسيا وأميركا إلا تجليات له. هذا الصراع بات يوماً بعد يوم يتسم أكثر فأكثر بأنه صراع مصيري يزج فيه كلا الطرفين بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة دونما تردد. لكن الثابت الوحيد في هذه المعادلة رغم كل المآسي والصعاب هو أن الشعوب الحية لن تعدم الوسيلة لترسيخ حقها في الحياة الكريمة والحرية والإستقلال وشعبنا في سورية هو بلا أدنى شك في مقدمة هذه الشعوب.
* نزيه عودة ـ شام تايمز