نشاطات

بين “فقدان” جثامين الشهداء وسرقة أعضائهم

زعمت السلطات الإسرائيلية إنها ‘فقدت’ جثامين شهداء فلسطينيين احتجزتهم في مقابر، بعدما رفضت إعادتهم إلى عائلاتهم، كعقاب وتنكيل بهذه العائلات. وبحسب زعم السلطات فإنه من بين 123 جثة، لا تعلم مكان دفن 121 جثة، بعد العثور على جثتين. وجرت عملية البحث عن هذه الجثث في أعقاب التماسات إلى المحكمة العليا، قدمتها عائلة الشهداء ومنظمات حقوقية. لكن هل هذا الزعم أو ‘الاعتراف’ الإسرائيلي له علاقة بالواقع أم أنه جاء في محاولة لإخفاء جريمة أكبر، تتعلق بسرقة أعضاء من جثث الشهداء.

ونقلت صحيفة ‘هآرتس’، أمس الاثنين، عن مصادر في الجهازين القضائي والأمني الإسرائيليين قولهم إنه لا توجد معلومات حول قسم كبير من جثث الشهداء، وقسم منها تحتجزها إسرائيل منذ سنوات التسعين. وبحسب مسؤول كبير في وزارة القضاء الإسرائيلية، فإنه ‘يجب قول الحقيقة، لقد فُقد أثر قسم من الجثث’. وأردف أنه ‘لم نستسلم، والبحث مستمر. وهذه العملية ما زالت في بدايتها. والمهمة الآن هي اتخاذ قرار حول من هو المسؤول’.

هذا المسؤولة يتحدث بسهولة عن ‘فقدان جثث’، فيما اعتبر مسؤول آخر في الوزارة نفسها أنه ‘ينبغي فهم بأيدي من دُفنت الجثث’. لكن أقوال هذين المسؤولين لا ينبغي أن تثير اطمئنان أحد بأنه سيتم العثور على جثث الشهداء. فقد أعلنت النيابة العامة الإسرائيلية في ردها على التماس للمحكمة العليا في تشرين الثاني/نوفمبر العام 2014، أنه ‘استنفذت الجهود في البحث’ عن جثث ثلاثة شهداء سقطوا في العام 2002.

وفي إطار هذه الرواية، فإن عملية دفن الشهداء لم تكن منظمة، وأنه شاركت فيها شركات خاصة، إحداها أغلِقت ومزقت المستندات والوثائق المتعلقة بالدفن. وتضيف هذه الرواية أن حكومة إسرائيل لم تقرر بعد من هي الجهة المسؤولة عن دفن الشهداء الفلسطينيين الذين تحتجز جثثهم، رغم أنها تمارس هذا الإجراء منذ عشرات السنين.

وعقب على ذلك القاضي في المحكمة العليا، يورام دنتسيغر، أثناء نظره في التماس في آذار/مارس الماضي. وقال إن ‘العائلة تريد مكانا (قبرا) لتزور عزيزها. وليس مهما إذا كان مخربا وسلب حياة آخرين’. وقال القاضي أوري شوهام ‘إنني متفاجئ قليلا من أن هذا النظام جارٍ منذ فترة طويلة جدا ولم تتحدد هوية الجهة الحكومية التي ينبغي أن تركز العمل. لماذا لم يُنفذ ذلك حتى اليوم؟’.

واتهمت المديرة العامة لمركز الدفاع عن الفرد، داليا كرشطاين، المؤسسات الإسرائيلية بالانغلاق والتعامل بإهمال بكل ما يتعلق مع ملف جثامين الفلسطينيين، وتساءلت كيف يمكن لجثامين محتجزة منذ سنوات طويلة في إسرائيل أن تختفي دون أن يكون لأحد أي معلومات عنها؟

ولفتت إلى أن هذه المؤسسات الرسمية، وبينها الجيش والتامين الوطني ومعهد الطب الجنائي ‘أبو كبير’، تمتنع عن توفير المعلومات اللازمة، وأنه ‘من خلال متابعتنا للملفات ومراجعة الدوائر الرسمية ورفض تحويل المعلومات، يتعزز الانطباع لدينا بأن هناك توجه عام لمنع الكشف عن المعلومات وتعمد لالتزام الصمت في إسرائيل حيال هذه القضية’.

**سرقة أعضاء من جثامين الشهداء

تنفي إسرائيل دائما أنها تسرق أعضاء من جثامين الفلسطينيين، وتدعي أن الاتهامات الموجهة لها بهذا الخصوص ‘فرية دموية’. لكن تبين أن هذا الادعاء الإسرائيلي ليس صحيحا، وأن إسرائيل درجت على سرقة أعضاء الفلسطينيين وعلى مدار عشرات السنين الماضية. بدءا من الانتفاضة الأولى، وربما قبل ذلك.

في كتاب ‘على جثثهم الميتة: القوة والمعرفة في المعهد الوطني للطب العدلي’ (2014)، أجرت الباحثة الاسرائيلية في علم الإنسان البروفسور مِئيرة فايس بحثا ميدانيا، على مدار سنوات طويلة، داخل جدران معهد الطب الشرعي الاسرائيلي في أبو كبير- تل أبيب. وتقول فايس في كتابها، إنها أعدت الكتاب للنشر في العام 2000، لكنها أرجأت إصداره بسبب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في نهاية أيلول/سبتمبر من العام نفسه. وتناول فايس في كتابها أداء معهد الطب الجنائي هذا، من خلال مشاهدات ميدانية ومقابلات مع الأطباء المسؤولين والعاملين في المعهد.

وقالت فايس إن ‘الاعتناء بالجثث في المعهد عكَس الحدود داخل المجتمع الإسرائيلي؛ وقد كان المعهد بمثابة صورة مصغرة للمجتمع الإسرائيلي، من حيث الشروخ فيه وأيضا من حيث قاعدة التضامن فيه. و’عمل الحدود’ الذي حرص المعهد على تنفيذه، نمّا هرمية للجثث، فصلت بين اليهود وغير اليهود، بين ’نحن’، الإسرائيليون – اليهود، و’هم’، الفلسطينيون، وكذلك بين ’المؤسسة’ و’المهاجرين من أجل العمل’. وهذا ما حدث في سياق استئصال الأعضاء أيضا’.

وأكدت فايس أنه ‘في الانتفاضة الأولى، سمح الجيش بشكل فعلي للمعهد باستئصال أعضاء من فلسطينيين بموجب إجراء عسكري، قضى بأنه يجب إجراء تشريح لكل قتيل فلسطيني. ورافق إجراء التشريح استئصال أعضاء، استخدمها بنك الجلد وبنوك الأعضاء الأخرى من أجل الزرع، الأبحاث وتعليم الطب’.

وأضافت فايس أن ‘الكثيرين من عاملي المعهد تطرقوا في المقابلات (التي أجرتها فايس معهم) إلى فترة الانتفاضة الأولى، 1987 – 1993، على أنها ’الأيام الجيدة’، التي جرى خلالها حصد أعضاء بصورة دائمة وبحرية، قياسا بأية فترة أخرى’.

ولفتت فايس إلى أن ‘عدد جثث الفلسطينيين التي وصلت إلى المعهد في الانتفاضة الثانية كان منخفضا أكثر بكثير من عدد جثث الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى. ولخص (مدير المعهد) البروفسور ليسر الوضع بالقول إن عدد القتلى الإسرائيليين في الانتفاضة الأولى كان أقل بشكل كبير من عددهم في الانتفاضة الثانية ومعظم القتلى كانوا فلسطينيين، جرى إحضارهم إلى المعهد بموجب الأمر (العسكري) العام.  وبعد اتفاق أوسلو والتغيرات السياسية التي جاءت في أعقابه، وبعد تأسيس المعهد الفلسطيني للطب الشرعي في أبو ديس، تم توجيه جثث الفلسطينيين، على ما يبدو، إلى المعهد الفلسطيني، ولم تصل إلى المعهد الإسرائيلي. وبناء عليه، فإن معظم جثث الفلسطينيين في الانتفاضة الثانية، التي وصلت إلى المعهد كانت لفلسطينيين قتلوا داخل إسرائيل أو عند حدود الدولة’.

وأضافت فايس أن ‘جثث الفلسطينيين التي وصلت إلى المعهد كانت غير صالحة لاستئصال أعضاء منها بسبب وضعها الطبي المتضعضع’.

ونقلت فايس عن مدير معهد الطب الجنائي في أبو كبير قوله إنه ‘في منتصف سنوات التسعين تدهورت صحة الفلسطينيين وكانت أجسادهم مصابة بأمراض كثيرة مثل اليرقان. وفي أعقاب ذلك، احتل العمال الأجانب مكان الفلسطينيين كمصدر للجلد وأعضاء أخرى’.

وحول قانونية سرقة أعضاء من جثث الفلسطينيين، أكدت فايس أن ‘استئصال الأعضاء الذي تم تنفيذه في جثث الفلسطينيين كان غير قانوني، لأنه لم يتم الحصول على موافقة رسمية من العائلة’.

لكن في إسرائيل يعتبر هذا الأمر قانونيا بمفهوم الأوامر العسكرية. وأشارت فايس إلى أن ‘هذا المثال يعكس مرة أخرى العلاقة المستعصية بين المعهد والجيش، ويعكس عمليا العسكرة غير المألوفة للمجتمع الإسرائيلي بمجمله، حيث يدوس الأمن والمصالح العسكرية، في أحيان كثيرة، المعايير ومؤسسات المجتمع المدني’.

وأضافت أن تأطير جثامين الفلسطينيين على أنها مستباحة مهد الطريق من أجل استخدامها كمصدر حر لاستئصال أعضاء. ومركزية حالة الحرب في إسرائيل أدت إلى تجاهل نموذجي لحقوق الإنسان لدى ‘الآخر’، أي الفلسطيني. واستئصال الأعضاء من جثامين الفلسطينيين أثناء الانتفاضة الأولى يعكس أيضا إقصاء الفلسطينيين الرمزي والجسدي عن ‘المجال العام’ للخطاب المدني والعقلاني في إسرائيل. وبأدائه هذا، صادق المعهد على الحدود الجماعية التقليدية للمجتمع الإسرائيلي.

مقالات ذات صلة

إغلاق