نشاطات

كتب د سميرمحمد ايوب من حكاوى الرحيل ( السابعة عشرة )

كتب د سميرمحمد ايوب
من حكاوى الرحيل ( السابعة عشرة )
جدلُ الظلم باق ، لا يرحل
ذات يومٍ مَضى ، فَقَدْتُ فيه الكثيرَ مِنْ خَبايا نفسي ، إقتربتُ كثيرا من بحرٍ ، كُنتُ قد إلتقيتَه لِلْتَوِّ صُدفة . يُشبِهُني في هُدوءِ الظاهِرِ من مَلامحه . يرتدي زُرقةً صافية . ويحملُ فوق طياتِه ، بعضاً من نَورِاسَ تَتقافزُ مُتعابِثة .
جالَسْتُ رَصيفَه ، مُقترباً ممن كان التعابث قد أضناهُ من النوارس . لا البحر كان يعرفني آنذاك . ولا إنتبَهَتْ لوجودي نوارسُه . وقبل ان أدرك تراتبيات ما حولي من مفردات ، باغتتني إمرأةٌ . إنتصبت أمامي في لباس البحر . تعتصربدلال بين أصابعها ، حُزَماً من شعرٍ مُشاغب حول جيدها ، للتخفيف مما سكن ثناياه من ماء . إلْتَفَتَتْ إليَّ ناظرةً دونَ نُطقٍ . ثم إستدارت بإستخفافٍ حَيِيٍّ . ودون أن أعيرَ إستخفافَها قِيمَةً ، أكملتْ شفتايَ بصوتٍ مسموعٍ ، حَديثَ الروح . مُكرِّراً بشئ من الإلحاح : أليسَ كذلك ؟!
إستدارَتْ هذه المَرَّة . و نَظرَتْ إلَي بإستِغْرابٍ ، مشوبٍ بمسحة من إستهجان متسَائِل : من أنت ؟!.
نظرت إليها . وبدل القول إمتدت أصابعي ، لتعبث بما يحمله ماء الموجة المتهالكة ، من رمل وحصى وطحالب .
فاستجْمَعَت ضَعْفهَا . ومَسَحَت عينيها وهي تقول : لا أريد ان أعرف من أنت . كُنْ من شِئتَ وما شِئتْ . ووَجَّهَت نَظَرَها صَوب البَحْر . و بَدَأتِ تحكي لِي قصتها وهي منتصبة القامة :
منذ اكثر من نصف قرن ، إحتفيتُ كثيرا بكل ما أنعم الله به علي من ذكاء . دلَّلْتُه وأدْخَلتُه حَيَاتِي ، بالإجتهاد المُمَيز . و رَسَمْتُ دائرةً حول أحلامي بِدواخِلِه . وكي لا يبقى مجرد مفارقة عابرة او ضربة حظ ، عَقَدتُ في دنيا البؤس المادي الذي أعيش ، كل الأمل عليه . درستُ بشغفٍ مُلْهِمٍ قادَ روحي . كان أكبر من كل شئ . إكتفت فطرتي بالصمت والصبر الجميل . لَففتُ حَبلَ مشْنَقةِ العلمِ حَولَ عنقِي ، دُونَ قصد . أبليتُ بلاءً حَسَناً في التخصص وفي العمل . ظننتُ أن في جهدي والمكانة الرفيعة ، قصصا ستُتَوَّجُ في آخر النفق ، بكل ما لذ وطاب من النهايات السعيدة . إن لم يكن مع أبطال أساطيري فمع بعض أوثان كوابيسي .
رمَيْتُ بِنَفْسِي فِي بحر العلم دون طوق نجاة . غير مكترثة بالعادات و التقاليد والمواقيت ، و مُتَنَاسِيَّة تماما كل البوابات والعتبات والبسملات ، وكل التعاويذ الوثنية وغير الوثنية الأخرى .
شطحتُ ونَطحتُ في معارجِ العلم والعمل . وفي كل المعارج سرحْتُ وتَطَوَّحتُ . وإنتهيت حتى ما عدت إلا فتاةً ، لا تحلم بشيء غير الزواج . فَجُلُّ الرجالِ في المُحصلة ، باحثون عن فتيات يتزوجونهن هم ، ولكن بالتشارك مع كثرةٍ وازنةٍ من حواضنهم الإجتماعية والثقافية والإقتصادية السيادية . حتى إمْعيطْ نَطَّاطِ الحيطِ فيهم ، باتَ لا يبحث إلا عن زوجةٍ فيها الكثير مما إتسمت به أم المؤمنين خديجه . يريد زوجة تُصدِّقُه ولا تُكذبه . تَمْنَحه راتبها ولا تحرمه . تزمِّله وتُدثره . وتملئ له البيت بناتا وبنينا . وأن تكون له عونا مُتْقَناً على الدنيا .
قلت دون ان اواجهها بعيني ، وانا جالس مكاني : لا يبحث الشريكان يا سيدتي ، في غرف النوم ، اوعلى موائد المطابخ ، او دفء المجالس ، في ارفف مكتبة الإسكندرية . ولن يغازلوا مضامين شهاداتكم الاكاديمية . ولن يسال ايا منهم ديوان الخدمة المدنية عما طبق اليوم ان كان منسفا او مقلوبة . ولا صندوق الضمان الاجتماعي عن نوع عطرك او عطره . كل ما دون ذلك إبقوه بعيدا هناك ، دون ذلك .
تشقَقَتْ فجأةً وإنهمَرَالكثير من دمِ دُمُوعِها . أحسست بغربتها وبوحدتها على القمم . حتى لا يتوقف نبض قلبها ، ضمَّتْ ذراعيها وإحتَضَنَتْ بحنانٍ نفسَها .
ران صمتٌ ثقيل ، لاَ أعْلَمُ معه كم طَالَ سُكُونها وهي على هذا الحال ، قبل أَن إستجمعت ضعفها . و شدَّت أزارها . و عادت إلى وعيها . و نظرت إليَّ مستأذنة : عليَّ أن أُغَادِرَ الآن.
لكِن ، سارَعْتُ أقولُ واقفاً : أريدكِ أن تؤمني ، بكل ما أوتيتِ من قوة ، أن الأوان لم يفت بعد ، للتوفيق بين ما أنجزت في العلم والحياة ، وما ستنجزين عما قريب . و لن يَفُتْ ما دام قلبك يدق . تذكري فقط ، أن عد السنين ، مجرد أرقامٍ مُتوازيةٍ لا مُتتالية . وأن الوصول للأفضل ، ليست له مواقيت نهائية . إمضي في حياتك ، لا تتلفتي ولا تنتظري أحدا .
ولكن ، كلما عصف بك ألم ، كوني أكثر استعدادا للوقوف بقوة من جديد . ودعي عزم زهرة ، تغمر حناياك بالدفء ، لتتفتح من جديد.
الاردن – 7/12/2016

.

مقالات ذات صلة

إغلاق