
لم تكن العلاقات الإنسانية في أي زمن خالية من المصلحة، فذلك يناقض طبيعة الإنسان بوصفه كائنًا يحتاج ويتبادل ويعتمد على غيره. غير أنّ الفارق الجوهري بين الأمس واليوم لا يكمن في وجود المصلحة، بل في موقعها داخل العلاقة: هل كانت عنصرًا ثانويًا، أم أصبحت مركزها ومحركها الأول؟
في المجتمعات التقليدية، كانت العلاقات تُبنى أولًا على الانتماء: العائلة، الجوار، اللغة، الدين، والتجربة المشتركة. وكانت القيم الدينية والأخلاقية تشكّل الإطار الذي تُفهم من خلاله العلاقات؛ فالزيارة صلة، والمساعدة صدقة، والسؤال عن الحال رحمة، والتعاون عبادة قبل أن يكون منفعة.
قالت الحكمة الدينية قديمًا إن العمل لا يُقاس فقط بنتيجته، بل بنيّته: «إنما الأعمال بالنيات». وهذا المبدأ كان يحفظ الفعل الأخلاقي من التحوّل إلى صفقة، والعلاقة من التحوّل إلى عقد منفعة.
أمّا في المجتمعات الحديثة، فقد حدث انقلاب هادئ: لم نعد نسأل “من هو هذا الإنسان؟” بل “ماذا يمثّل لي؟ ماذا يضيف؟ ماذا يحقّق؟”. وهنا يتحوّل الإنسان من غاية إلى وسيلة، ومن كيان يُقابل لذاته، إلى مورد يُستثمر لقيمته الوظيفية.
تحت ضغط الاقتصاد المعولم، وتسارع الحياة، وهيمنة منطق السوق، أعاد الإنسان تشكيل عالمه على صورة المعادلة: لكل شيء ثمن، لكل شيء مقابل، لكل شيء جدوى. ولم يكن ممكنًا أن تبقى العلاقات خارج هذا المنطق.
حتى اللغة تغيّرت؛ صرنا نصف الناس بما “يقدّمونه” لا بما “هم عليه”. نقول: مفيد، مؤثّر، صاحب شبكة، ذو قيمة… وهي كلمات تبدو محايدة، لكنها في عمقها اختزال للإنسان إلى وظيفة.
التحية لم تعد دائمًا فعل اعتراف بإنسانية الآخر، بل صارت أحيانًا إجراءً اجتماعيًا، أو تمهيد علاقة، أو فتح قناة نفع. والسؤال عن الحال لم يعد دائمًا قلقًا صادقًا، بل قد يتحوّل إلى لياقة شكلية أو استطلاع نفسي سريع.
أمّا المساعدة، فقد انتقلت من كونها فعل إحسان إلى كونها — في كثير من الأحيان — رأس مال اجتماعيًا أو أخلاقيًا: تمنح صاحبها شعورًا بالتفوّق، أو سمعة طيبة، أو شبكة امتنان قابلة للاستدعاء لاحقًا.
وهنا يظهر السؤال الأخلاقي المركزي: إذا كانت الأخلاق تُمارَس بدافع المنفعة، فهل تبقى أخلاقًا، أم تتحوّل إلى تقنية لإدارة العلاقات؟
من المنظور الديني، الفعل الأخلاقي ليس ما “ينجح” فقط، بل ما “يصلح”. ليس ما يربح، بل ما يزكّي النفس ويُقوّم السلوك. وحين يُفرغ الفعل من هذا البعد، لا يصبح الإنسان شريرًا، بل يصبح أفقر معنويًا؛ أقل قدرة على العطاء الحر، أقل استعدادًا للتضحية، أقل حساسية تجاه ضعف الآخر.
وهنا يأتي البعد التربوي الخطير: الأجيال الجديدة تتربّى اليوم في عالم يعلّمها أن تسأل دائمًا: ماذا سأستفيد؟ ماذا سأخسر؟ نادرًا ما تُسأل: ماذا يجب؟ ماذا يليق؟ ماذا يُصلح؟
فتتحوّل القيم من مرجعية إلى خيار، ومن بوصلة إلى ذوق شخصي، ومن واجب إلى تفضيل.
ولنقلها بوضوح: نحن لا نخدع بعضنا فقط، نحن نخدع أنفسنا أيضًا. نسمّي الاستخدام تعاونًا، ونسمّي الاستنزاف تبادلًا، ونسمّي العلاقات المؤقتة نضجًا. نغادر حين تنتهي الجدوى، ثم نبرّر ذلك باسم الواقعية. لم نعد نكسر العلاقات، بل نتركها تذبل وحدها، ثم نمضي وكأن شيئًا لم يكن. وهذا أخطر من القطيعة، لأنه يُميت المعنى بصمت.
الأخطر في هذا التحوّل ليس انتشار الأنانية، بل تطبيعها بوصفها ذكاءً اجتماعيًا ومهارة حياة. في هذا السياق تُعاد تسمية الأشياء: الطيبة تُسمّى سذاجة، الوفاء يُسمّى عبئًا، العطاء يُسمّى استنزافًا، الثبات يُسمّى خسارة فرصة.
ومع ذلك، لا يخلو العالم من مقاومة صامتة: أناس يعطون لأن الضمير يتحرّك قبل الحساب، يساعدون لأن الرحمة تسبق المنفعة، يلتزمون لأن الوفاء جزء من تعريفهم لأنفسهم. هؤلاء لا يغيّرون النظام، لكنهم يحفظون توازنه الأخلاقي من الانهيار الكامل.
من هنا تبدأ مسؤوليتنا التربوية: أن نُعلّم أبناءنا أن يسألوا ليس فقط “ماذا سأستفيد؟” بل “ماذا يجب أن أفعل؟”، “ما الذي يليق بي كإنسان؟”. أن نُعيد إلى اللغة كلمات مثل: الواجب، الأمانة، الرحمة، الوفاء، لا بوصفها مثالية رومانسية، بل بوصفها شروطًا لسلامة النفس والمجتمع معًا. فالأخلاق ليست عبئًا على الحياة، بل ما يمنعها من أن تتحوّل إلى صراع دائم.
لم تكن العلاقات الإنسانية في أي زمن خالية من المصلحة، فذلك يناقض طبيعة الإنسان بوصفه كائنًا يحتاج ويتبادل ويعتمد على غيره. غير أن الفارق بين الأمس واليوم ليس في وجود المصلحة، بل في موقعها:
هل كانت عنصرًا ثانويًا داخل العلاقة، أم أصبحت مركزها ومحركها الأول؟
في المجتمعات التقليدية، كانت العلاقة تُبنى أولًا على الانتماء: العائلة، الحيّ، الدين، اللغة، القيم المشتركة. وكانت المصلحة تأتي لاحقًا — أحيانًا بوعي وأحيانًا بلا وعي — لكنها لم تكن تعريف العلاقة نفسها.
أما في المجتمعات الحديثة، فقد حدث انقلاب هادئ:
لم نعد نسأل من هو هذا الإنسان؟ بل نسأل: ماذا يمثل لي؟ ماذا يضيف؟ ماذا يحقق؟
وهنا لا تتحول العلاقات فقط، بل يتحول معنى الإنسان نفسه: من غاية إلى وسيلة.
تحت ضغط الاقتصاد، السرعة، التنافس، والخوف من الهشاشة، بدأ الإنسان يعيد تشكيل عالمه على صورة السوق: كل شيء قابل للتقييم، لكل شيء ثمن، ولكل علاقة جدوى.
حتى اللغة تغيّرت:
•لا نقول “فلان صديق” بل “فلان مفيد”.
•لا نقول “أحب قربه” بل “وجوده مهم”.
•لا نقول “يسأل عني” بل “يتواصل معي”.
إنها لغة حيادية في ظاهرها، لكنها في عمقها لغة اختزال.
التحية لم تعد دائمًا فعل اعتراف بإنسانية الآخر، بل أصبحت أحيانًا إشعار وجود، أو فتح قناة اتصال، أو تثبيت علاقة قد تُستخدم لاحقًا.
والمساعدة لم تعد دائمًا تعبيرًا عن تعاطف، بل قد تتحول إلى رصيد أخلاقي، أو رأس مال اجتماعي، أو دين نفسي يُستعاد عند الحاجة.
وهنا يظهر السؤال الأخلاقي المركزي:
إذا كانت الأخلاق تُمارَس بدافع المصلحة، فهل تبقى أخلاقًا أم تتحول إلى تقنية اجتماعية؟
الفعل الأخلاقي في جوهره هو فعل لا يُفسَّر بالكامل بالحساب، بل بشيء يتجاوزه: التعاطف، الرحمة، الشعور بالآخر، الإحساس بالواجب الذي لا ينتظر مقابلًا.
وحين يختفي هذا البعد، لا يصبح الإنسان شريرًا بالضرورة… لكنه يصبح فقيرًا معنويًا.
ليس الفقر هنا فقر المال، بل فقر المعنى، فقر العمق، فقر القدرة على العطاء الحر.
ولذلك فإن أخطر ما في هذا التحول ليس أن الناس صاروا أنانيين، بل أن العالم صار يُربّيهم على ذلك بوصفه عقلانية، ذكاءً، ونجاة.
وفي هذا السياق، تصبح الطيبة سذاجة، والعطاء ضعفًا، والوفاء عبئًا، والثبات خسارة محتملة.
ومع ذلك… لا تزال هناك مقاومة صامتة:
أناس يساعدون لأنهم لا يستطيعون ألا يساعدوا.
يسألون لأن القلب يقلق لا لأن العقل خطّط.
يعطون لأن العطاء جزء من تعريفهم لأنفسهم.
هؤلاء لا يصنعون ضجيجًا، لكنهم يحفظون التوازن الأخلاقي للعالم.
وربما يكفي وجودهم كي لا يتحول العالم كله إلى معادلة
ربما لا نستطيع إلغاء منطق السوق، ولا نملك رفاه العودة إلى عالم مثالي لم يوجد بهذا الصفاء، لكننا نملك شيئًا واحدًا: ألا نسمح له بأن يكون اللغة الوحيدة التي نفهم بها الإنسان.
فحين تُختزل العلاقات إلى منفعة، يُختزل الإنسان إلى مورد.
وحين يُختزل الإنسان، يُختزل العالم كله.
وهذا، في جوهره، ليس سؤال اقتصاد… بل سؤال تربية، وقيم، ومعنى
عصر العلاقات المؤقتة
نحن لا نعيش أزمة علاقات، بل نعيش أزمة تعريف للعلاقة نفسها.
لم تعد العلاقة ما بين إنسان وإنسان، بل ما بين حاجة وحاجة، ومنفعة ومنفعة، وخوف وخوف.
نحن لا نقترب لأننا نحب، بل لأننا نحتاج.
ولا نسأل لأننا نهتم، بل لأننا نتحقق.
ولا نساعد لأننا نرحم، بل لأننا نؤمّن لأنفسنا موقعًا أخلاقيًا أفضل.
نحن نستهلك بعضنا بعضًا بلغة ناعمة.
نقول: تواصل، تعاون، شبكة علاقات، دعم متبادل…
لكننا نعني: استخدام مؤدب، واستنزاف مهذّب، وتبادل مصالح مغلف بالابتسامة.
هذا ليس توصيفًا قاسيًا، بل واقعيًا.
العالم الذي يحوّل كل شيء إلى سلعة، لن يعفي الإنسان من أن يكون سلعة أيضًا.
والنتيجة؟
علاقات سريعة، صداقات هشة، ولاءات مؤقتة، ووفاء مشروط ببقاء الفائدة.
نحن لا نخون كثيرًا، نحن فقط نغادر حين تنتهي الجدوى.
وهذا أخطر من الخيانة.
لأن الخيانة تعترف بوجود رابطة تم كسرها،
أما نحن فنعيش وكأن الرابطة لم تكن موجودة أصلًا

