نشاطات
سقف بلا طائل / بقلم : رياض الصالح
لعل حديثي لك يا صديقي يختلف هذه المرة .. فأنا أعلم يقيناً بما أصاب شغفك المخذول من عطال تجاه ما ستحمله الأيام لك من هدوء بال وسكينة قلب .. فقد كنت أعاين من بعيد وعن كثب كذلك ملامحك التي كانت تتغير تباعاً وهيئتك التي تعيد الحياة تشكيلها كل مرة خلال رحلتها نحو النضوج ..
وأتفهّمُ حقيقة كل ما لحق بك من تغيّراتٍ وإعادة تموضع .. فلا لوم عليك ولا عتب .. كما أنني لا أدعي الوصاية عليك .. ولا أكتب لك للتوجيه ولا الإرشاد ولا حتى للتأنيب أو الانتقاد .. فأنت تعلم رأيي بمعضلة التغير والثبات .. وكيف أوقفت ملاماتي للحائدين عن الدروب إلى غيرها.. المتغيرين بغية الحقيقة التي تناسب أرواحهم .. المنسحبين للأمام .. فالدرب إذا لم يعد صالحاً للاستخدام .. ولا سالكًا للوصول .. ولا مشجعاً للاستمرار .. فالثبات فيه مجرد تكرارٍ معيب وضربٍ من القعود وبئرٍ معطلة من الملل وعرش خاوٍ من الإبداع ..
لكنك يا صديقي وقعت في عِلّة لم تكن في حسبانك .. ولا أظنك قد أخذت تدابير الوقاية منها .. وإلا لما بدت على ملامحك تجاعيد الخذلان مبكراً .. ولما خفت صوتك وطال صمتك وانقطعت ضحكاتك ..
نحن يا صديقي لا زلنا قابعين في مضارب القبيلة .. معوّلين على جدواها في عصر التمدّن الحالي .. فلا تزال خيامها ضاربةً أطنابها في صحارى ذكرياتنا وبوادي عقولنا العميقة .. لا زلنا نستقي من آبارها وتخفق فينا أرياحها ونرتدي عباءتها التي خلعناها على أرض الواقع العصري .. ومهما تنكرنا لذلك يا صديقي وادّعينا التحضّر فلن نفلح في نزع أوتادها المتجذرة في خرائطنا الوراثية ..
لذلك لا يزال سقف توقعاتنا بحقوقنا القبليّة مرتفعاً جداً .. ومطالبنا العشائرية بالدعم والجوار والمساندة مستمرة مع إدراكنا بأننا نعيش فرادى كالقطط في منازل البشر .. فإن أصابنا الخذلان بعد محاولات الالتجاء الفاشلة وتعوّد آذاننا على كلمة ” ساعد نفسك بنفسك ” وصدمتُنا بالتنافس الأنانيّ المتبرّيء من روح الجماعة .. ثم وعينا بالعجز الجمعي على توجيه الفرد والاهتمام بتطلعاته عدا عن نصرته.. وبعد لطم الحظوظ وشق العتاب والنواح على الأطلال .. تنكمش الأجساد كما انكمشت الأحلام .. وزارنا الخذلان في صوامعنا التي لجأنا إليها بحجّة الفرار من فساد المدينة ..
روحها لا تزال حاضرة يا صديقي .. حتى ونحن نحاول التفلت من الصحراء .. ومفارقة القطيع والبحث خارج الأُطُر .. نازعتك ذاتك التي تحِنّ وقبيلتك التي تأبى عليك الفرار عن الحشد .. ثم تطلبك حقها بالامتنان لما تبقى منها.. إن أغدقت علينا بقسوة عيشها وسراب واحتها وعطال آبارها .. حتى بتنا نشعر بامتنان جمّ إن أغدق علينا أحد فرمى بصره نحونا أو بادرنا بتحية .. لم يكن ابن القبيلة يشعر بامتنان لأحد من عشيرته ولو قامت لأجلِه معركةٌ دعا لها الواجب وساندها الحق .. لأنه سيرد بالمثل دون طلب ولا مِنّة .. كما تمليه تعاليم رجال القبيلة آنذاك ..
لم تعد هنالك قبائل في بلادنا .. لكنها أطيافٌ أرواح تحوم بيننا .. وماذا سيجلب الموتى للأحياء .. وكيف سنعيش مع الأشباح .. فإما أن نرى ما بعد القبيلة .. ونتعلم لغة ما بعدَ الأمّيّة .. ونتقن قياس المسافات طولاً وعرضاً.. وطبيعة الزاد المناسب للمثابرة.. ونخفف من توقعاتنا ومطالبنا بالنُصرَةِ .. أو نقع فريسةً في مخالب الخيبة وأنياب الخذلان ..
لست أدعو يا صديقي هنا لعقيدة التخلّي عن الهوية .. ولا بالانسلاخ عن الجلد .. ولا أبرر لأخطاء الواقع .. لكنني أخلع أسمال اليأس الذي ارتداه الكثيرون .. وأرتدي ثياباً ملائمةً تليق بمستقبل أشبه بالمستحيل .. أكثر وسامة من هذا العصر البائس ومن الماضي الذي سُحِق ..
# بقلمي
# رياض الصالح