الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
ليلة القدر ليلة التكريم والتشريف للقرآن الكريم، وكما يذكر الزمخشري في تفسيره لآيات سورة القدر فيقول: فإن لهذا التشريف له ثلاثة أوجه:
أولها: أنه تعالى أسند إنزاله (القرآن) إليه وجعله مختصا به دون غيره، فقال: “إنا أنزلناه”.
والثاني: أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر، فقال “أنزلناه” ولم يقل “أنزلنا القرآن” شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه.
وأما الثالث: الرفع من مقدار الوقت الذى أُنزِل فيه بأن قال: “فى ليلة القدر”.
كما أن لهذا التشريف للقرآن الكريم إستدراك مستدام من قبل الأمة المسلمة التي اعتنت به فعزّت منذ أن نزل وإلى قيام الساعة، فمَهْما بحثت فإنك لن تجد كتابًا فى تاريخ الأمم والشعوب يحفظه الناس بقلوبهم ويتلونه بألسنتهم كما يتلو المسلمون القرآن الكريم ويحفظونه ويتعاملون معه ويتفاعلون مع آياته وأحكامه، حتى مع الكتب السماوية التي نزلت على موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، فهو الكتاب الذى تترنم فى ذكره ألْسِنة المسلمين على اختلاف ألوانهم وأجناسهم، وهو الكتاب الذى رفع الله به ذكر العرب وجعله الروحَ لعروبتهم واتخذ من لغتهم وعاء لكلامه العزيز ورسالته الخاتمة، وفي هذا المقام هناك قول للمستشرق النمساوي (فون هامر) فى مقدمة ترجمته للقرآن الكريم يقول فيه: “القرآن ليس دستور الإسلام فحسب، وإنما هو ذُروة البيان العربى، وأسلوب القرآن المدهش يشهد على أن القرآن هو وحى من الله”.
– وعندما نتحدث عن اصطفاء الله لهذه الليلة المباركة (ليلة القدر) من بين جميع الليالي، فإن هذا الاصطفاء ليس لخصوصية تلك الليلة في ذاتها، وإنما لخصوصية الحدث الذي حدث فيها، وهو نزول القرآن الكريم،
ولتكون زمانًا لتجليات الحق وعطاءاته لعباده، فاختارها الله تعالى لإنزال كتابه العزيز المعجز، وبزوغه من كنزه الذي كان مكنونًا فيه -وهو اللوح المحفوظ في السماء السابعة- ثم إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم بواسطة الوحي جبريل -عليه السلام- ثمّ إلى النبي الصادق المصدوق ﷺ لتبدأ معه مباشرة مهمة صناعة الحياة وصياغتها من جديد وفق المنهج الإلهي الذي تضمنه هذا الكتاب الذي: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصّلت: 42) ولتفيض آثاره على قلوب المؤمنين إخباتًا وخشوعًا، وعلى النفوسن طُهْرًا وصفاء وإشراقًا، وعلى السلوك التزامًا وانقيادًا.
– وفي هذه الليلة المباركة تلَقّى النبي -ﷺ- رسالة الوحي الإلهي، وكذلك اصطفاه الله -عز وجل- نبيًا ورسولًا خاتمًا للنبيين والمرسلين، وبعثه للعالمين جميعًا بشيرًا ونذيرًا، فكانت رسالته هذه إيذانًا بمرحلةٍ جديدة وحياةٍ فريدةٍ في حق الإنسانية كلها ابتداءً بالعرب الذين لم يكن لهم أية قيمة بين أمم الأرض وشعوبها ليصبحوا بين ليلة وضحاها أسياد العالم وقادته من دون منازع.. وللحديث بقية في المقالة القادمة صبيحة الغد بمشيئة الله تعالى
– مقالة رقم: (1562)
ضمن سلسلة:(رمضان أقبل بالهُدى، فاغتنِم نفحاته)
24. رمضان. 1445 هـ