نشاطات
القريه_المخيفه الجزء الاول
طلب مني سائق الحافلة النزول بعد وصولنا إلى نهاية الخط … كنت أنا الراكب الأخير في الحافلة التي كانت مكتظة عن آخرها بالركاب طوال الطريق، ولكنهم جميعا نزلوا في محطات سابقة ولم يتبق إلا أنا والسائق عند نهاية الخط … نظرت من النافذة إلى محطة البنزين والاستراحة القائمتين في تلك المنطقة الصحراوية المنعزلة، قبل أن أسأل السائق في دهشة:
– هل هذه هي قرية (كوم الأبيض)!؟ فأطلق ضحكة ساخرة، وهو يقول متهكما: – هذه هي آخر أرض البشر. ثم أردف بجدية:
– عليك أن تنزل هنا، وتبحث عن وسيلة تقلك إلى هناك … فالطريق جبلي وعر ولا يصلح لسير السيارات.
توقف للحظة ثم أضاف:
-كما أن أهل هذه القرية لا يرحبون بالغرباء.
لا أعرف لماذا اعتراني ذلك الخوف المبهم بعد أن ترجلت من الحافلة، ورحل بها السائق مثيرا عاصفة كبيرة من الغبار خلفه، أتساءل في حيرة وأنا لا أجد أثرا لأي إنسان حولي، ترى هل سيسعفني الحظ وأجد وسيلة تقلني إلى وجهتي!؟ أم سأضطر للمبيت هنا في هذا المكان المجهول!؟
-السلام عليكم … كيف يمكنني مساعدتك يابني؟
انتبهت إلى ذلك العجوز الذي يجلس على كرسي خشبي تحت مظلة حائلة من القماش أمام الاستراحة العتيقة، المتهالكة، التي يبدو أنها شيدت منذ دهر، وفعل بها الزمن فعلته، فلم يبق بها ما يدل على حالها، سوى هاتين الكلمتين المكتوبتين على لوحة معلقة فوقها بخط يد سئ (استراحة المحطة) … جرجرت حقيبة سفري، وتوجهت إلى ذلك الرجل، الذي نهض من كرسيه واقترب مني بخطوات عرجاء وهو يكرر سؤاله:
-كيف يمكنني مساعدتك؟
أجبته بصوت قلق:
– أنا الطبيب الجديد المكلف بالعمل في الوحدة الصحية بهذه القرية … وأبحث عن وسيلة لتقلني إلى هناك.
نظر الرجل إلى السماء، والشمس التي جاوزت كبدها وبدأت في التوجه نحو المغيب، قبل أن يقول:
– هل يعلمون في القرية موعد وصولك؟
– للأسف لا … كان المفترض أن أبدء العمل من الأسبوع السابق، ولكن هناك ظروف حالت دون ذلك.
فكر الرجل لبرهة، ثم أشار بيده ناحية الاستراحة، وهو يحمل الحقيبة عني، ويقدمني إليها، وهو يقول مرحبا:
-ما زال هناك وقت … تعال معي، لتستريح داخل الاستراحة، وسأحضر لك كوبا من الشاي، وسأتصل بالقرية حتى يرسلوا من يقلك.
لم أفهم ما يقصده العجوز الأعرج النشيط، بقوله؛ مازال هناك وقت! ولكنني سرت خلفه، محاولا اللحاق به … كانت الاستراحة من الداخل أسوء من الخارج، طاولتين من البلاستيك يحيط بهم عدة مقاعد من نفس الخامة، واجهه زجاجية متسخة خلفها بعض علب البسكويت والمناديل صنعت قبل أيام الملك، غلاية وبعض الأكواب المتسخة … أسرع الرجل بتشغيل مروحة السقف التي هدرت بصوت عال، كأنها توشك أن تهجم علينا، قبل أن يدعوني للجلوس، وهو يخرج هاتف محمول عتيق، ويتجه إلى ركن من المكان، ويتصل بالقرية … كان الرجل يتحدث بانفعال، لم أسمع ما يقوله بالضبط، ولكن يبدو أن محدثه لم يكن متفهما، واحتاج هو لجهد كبير لإقناعه … دقائق وأنهى المكالمة، وعاد إلي وقد اتسعت سريرته، وهو يقول حكم:
– نصف ساعة وسيصل أحدهم ليقلك، لا تقلق الأمور على ما يرام.
ثم أردف وهو يشير بسبابته إلى صدره:
– أنا عمك (عفيفي)، عجوز المحطة، أو كما يسميها أهل المنطقة آخر الأرض … ما اسمك أنت يابني؟
-أنا (فادي) طبيب شاب، ولا أملك واسطة، وهكذا وجدت نفسي مكلفا بالعمل على مسافة خمسمائة ميل بعيدا عن أهلي وقريتي.
أطلق الرجل ضحكة لطيفة أبرزت فكه الخالي تقريبا من الأسنان، وهو يضع حبات الشاي والسكر في الكوب ويصب عليه الماء من الغلاية، ويناوله لي، وهو يقول:
-أنت ما زلت شابا يافعا …
يمكنك أن تتحمل القليل من التعب في هذا العمر، عندما ستكبر ستتحول هذا الأيام إلى ذكريات، وخبرات جميلة تحكيها لأولادك.
رشفت رشفة من كوب الشاي بحذر، فأعجبني مذاقه، فشكرت الرجل بإيماءة من رأسي …
لقد استطاع ذلك العجوز الطيب أن يزيح الحواجز بيني وبينه في لحظات، فوجدت نفسي أتبادل معه حديثا وديا دون تكليف في شتى الموضوعات المختلفة، وأعجبني أن هذا الرجل كان ذكيا، لماحا، ويحمل خبرة السنين … بعد نصف ساعة بالضبط، قاطع حديثنا ذلك الصوت القادم من خارج الاستراحة:
– عم (عفيفي) … عم (عفيفي).
خرجنا بسرعة، لنرى ذلك ذلك الرجل الضخم الغليظ الملامح في الملابس البلدية، يجلس على حمار أبيض عملاق، ويجر خلف حمارا آخر رمادي اللون، أصغر من صاحبه … التفت لي عم (عفيفي)، وهو يقول:
-هذا هو (العم شقص) …سيقلك إلى القرية.
قلت بدهشة:
-على الحمار.
ابتسم وهو يقول:
-أجل … ألم أقل لك أنك ستعيش هنا ذكريات وخبرات جديدة، تحكي عنها لأولادك في الكبر
***
كان الطريق إلى الجبل، جبليا، وعرا، وصاعدا بزاوية حادة … حمل (العم شقص) حقيبتي أمامه على حماره العملاق، وساعدني على امتطاء الحمار الآخر الذي كان يجره بعقال في يده … في الطريق كانت تقابلنا بعض الصخور والعقبات فكان (العم شقص) يدفع الحمير أو يحملها حملا من فوق تلك العقبات، ثم يساعدني على العبور حتى نستطيع استكمال الطريق … كنت أعرف أن هذه المنطقة بيئتها جبلية، وعرة، هذا ما أخبرني به (جوجل) على خريطته، ولكنني كنت أظنه يمازحني، أو يحاول السخرية من حظي العاثر، وبؤس وساطتي … حاولت تبادل أطراف الحديث مع (العم شقص)، ولكن ردوده كانت مقتضبة، قصيرة، لا تشجع على الاستمرار في الحديث … كان متوترا، ولاحظت أنه يتابع بعينيه قرص شمس الذي اقترب من المغيب في قلق حقيقي.
بعد قليل بدأ الطريق يتوجه نزولا، وظهرت القرية الرابضة في بطن الجبل، بمنازلها القديمة والمصنوعة في معظمها من الصخور الجبلية، والطوب (اللبني)، في ناحية الشرق منها مساحات كبيرة مزروعة، تنتهي بغابة من الأشجار العملاقة، أما من باقي الجهات فيحيط بها الجبل و تلاله الصخرية إحاطة السوار بالمعصم، لفت انتباهي ذلك البناء ذو الواجهة المحفورة في صدر الجبل، كانت الواجهة عبارة عن عمودين كبيرين بينهما سقف على شكل نصف دائرة، اسفله باب خشبي ضخم، بدا لي البناء كمعبد أو دير مشقوق شقا في صخور الجبل، يذكرني بمدخل مدينة (البتراء) الأردنية الأثرية، الشهيرة ، وإن كان هذا البناء أصغر بكثير، أشرت نحوه بسبابتي، وأنا أسأل (العم شقص):
-ما هذا؟
-الشونة.
لم أفهم ما يقصده، ومن الطريقة العصبية التي رد بها لم أحاول أن أسأله أكثر … كان الطريق قد صار ممهدا، حث (العم شقص) الحمير على إسراع الخطا، حتى صرنا في قلب القرية، التي لاحظت أنها خالية تماما من البشر في هذا الوقت، أطلق (العم شقص) صيحة آمرة:
-هسسسسس.
فتوقفت الحمير أمام الوحدة الصحية، التي أحبطني مرآها للغاية، بمبناها الصغير، العتيق، ذو الطابق الواحد، الذي بدا مهملا ويفتقر كثيرا إلى النظافة من الخارج … توجه (العم شقص) بالحديث لي لأول مرة في هذا اليوم قائلا
-هذه هي الوحدة الصحية، وفيها السكن الخاص بك.
قادني (العم شقص) وهو يحمل حقيبة سفري إلى الوحدة، بعد أن فتح بابها بمفتاح غليظ، فأصدر الباب صريرا عاليا، مزعجا، وهو يدفعه، من الواضح أن هذا المكان لم يفتح منذ فترة طويلة، كما هو واضح أيضا من جوه المكتوم في الداخل …
أضاء (العم شقص) المصباح فوجدت نفسي في صالة ضيقة بها بعض المقاعد الموزعة عشوائيا، أشار بيده وهو يتحدث بكلمات سريعة متعجلة، موضحا لي طبيعة المكان، قائلا:
-هذه هي صالة استقبال المرضى، وهذا هو المطبخ، وهذا الحمام، وهناك حمام آخر مرفق بغرفة نومك.
أشار إلى الباب الأبيض المعلق فوقه لوحة مكتوب عليها (غرفة الكشف)، وهو يقول بفطنة وذكاء:
-وهذه هي غرفة الكشف.
أشار نحو الباب الأخضر في نهاية الرواق وقال بصوت خشن، وبلهجة فظة:
-هذه هي غرفة نومك … لا تغادرها أبدا بعد غروب الشمس.
قلت مستظرفا محاولا كسر الجليد بيني وبينه:
-ماذا سيحدث لو فعلت، هل لديكم جان وعفاريت يمرحون ليلا في قريتكم؟
-لا.
-إذا هي النداهة؟
-لا.
-مطاريد الجبل؟
-لا.
-ماذا إذا؟
قال بلهجة غامضة، مرعبة، بعثت القشعريرة في روعي:
-إنها الذئاب … فالقرية لنا في الصباح ولهم في المساء، ومن يخالف هذا القانون، لا يعيش ليحكي عن ذلك.
***
غادر (العم شقص) المكان بسرعة، مع وعد بأن يقابلني في الصباح ويصحبني لمقابلة العمدة، وكبراء القرية … قمت بجولة سريعة في المكان، لاحظت أن كل الأبواب والنوافذ مدعمة بأطر من الحديد الصلب، كما أن المكان يحتاج للتنظيف، فالتراب يغطي كل شئ، وغرفة الكشف تفتقر إلى الكثير من الأدوات والمواد الضرورية …
توجهت لغرفة نومي، أزحت ما استطعت من الغبار من على الفراش، فرشت ملاءتي فوق ما تبقى منه، وتمددت عليه متوقعا أن يأتيني النوم سريعا فقد كنت مسحوقا من فرط الإرهاق.
بعد ساعات من محاولات النوم الفاشلة، وصل إلى مسامعي العواء الأول، كان قادما من مسافة كبيرة، لم يكن كأصوات العواء التي اعتدنا سماعها في التلفاز والراديو، أو حتى من بعض الكلاب التي تستظرف وتحاول الإدعاء بإنها ذئاب …
كان عواء طويل، غليظ، بدا لي كصوت حشرجة، لم أكن لأفترض أنه صوت ذئب لولا تلك النهاية الممطوطة المعتادة في عواء الذئاب، أول ما خطر ببالي أنه شخص ذو حنجرة خشنة يحاول تقليد صوت ذئب، ولكنه لا ينجح كثيرا.
تكرر العواء بعد ذلك كثيرا من أماكن متعددة، بعضها قريب للغاية من الوحدة الصحية، وكأن العشرات من الذئاب ذات الحنجرة المتحشرجة تمرح في شوارع القرية …
انتصب شعر رأسي، وشعرت بالقشعريرة الباردة تسري فوق أطرافي، وعلى عمودي الفقري، عندما سمعت صوت زمجرة! قريبا جدا من نافذة غرفة نومي، وعلى ضوء القمر لمحت خيال يتحرك قرب النافذة، ثم بدأت أصوات المخالب تخمش في خصاصها، وفي جدار الوحدة الصحية … من الواضح أن هناك ذئب وراء تلك النافذة اجتذبته تلك الرائحة الجديدة التي تصدر الليلة من داخل الوحدة الصحية، رائحة طبيب شاب، مكلف، عاثر الحظ، لحمه شهي يصلح كوجبة للعشاء.
يتبع
#القريه_المخيفه
الجزء الاول
من قصص حكايا العالم الاخر