مقالات

* سلسلة جديده حول: التدجين الدعوي! * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة( 1-2-3 )

د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

عنوان السلسلة: “التدجين الدعوي: هندسة الطاعة باسم النّص”
* عنوان المقالة الأولى: ” فهم التدجين الدعوي: كيف يُصنع خطاب الطاعة؟” (1)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* فهم التدجين الدعوي: كيف يُصنع خطاب الطاعة؟
في واقعنا المعاصر، لا يخلو الخطاب الديني من تأثيرات السياسة والسلطة، بل إنه في كثير من الأحيان يتحول إلى أداة تخدم مصالح معينة، فتُطوّع النصوص المقدسة لتبرير الطاعة والاستسلام. هنا يظهر مفهوم “التدجين الدعوي”، وهو ما يعني تحويل الدعوة التي من المفترض أن تكون رسالة تحرر ووعي، إلى خطاب يُشبه “هندسة الطاعة”، يصنع من الدين غطاءً لاستمرار الهيمنة السياسية والاجتماعية.
*؛ما هو التدجين الدعوي؟
التدجين في معناه العام هو ترويض وتحكم؛ وعندما يُضاف إليه صفة “الدعوي” يصبح ضبطًا وتحجيمًا للخطاب الديني بحيث يخدم مصالح السلطة، ويتحول الداعية من صوت حرّ يُعبّر عن الحقيقة إلى موظف يكرّر رسائل الطاعة والتهدئة. هذا الترويض يغيّب الفاعلية الحقيقية للدين الذي يدعو إلى الإصلاح والعدل، ويحوّله إلى أداة للحفاظ على الوضع القائم.
* كيف يُصنع خطاب الطاعة؟
الخطاب المدجّن لا يأتي صدفة، بل هو نتيجة خطوات مدروسة منها:
أ- انتقاء النصوص وتوجيهها:
يتم اختيار الآيات والأحاديث التي تُبرز الطاعة وحفظ النظام، مثل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (النساء: 59)، مع تجاهل النصوص التي تحث على مقاومة الظلم، كالحديث عن الجهاد في سبيل الحق والعدل.
ب- التفسير الانتقائي:
تفسير النصوص بما يخدم السلطة، حيث يتم تأويل الآيات بما يرضي الحاكم أو القائمين على السلطة الدينية، فتُغيب المفاهيم التي تحرّض على رفض الطغيان والظلم.
ت- إعادة صياغة الرسالة:
الخطاب يصبح دعويًا مهادنًا، يُربّى الجمهور على الرضا والتسليم، لا على المطالبة بحقوقهم أو التغيير، فيتبدل من صوت تنويري إلى صوت إخماد خانق.
* لماذا يحدث هذا التدجين؟
على الدوام تسعى السّلطة إلى استقرارها بأي ثمن، والدين أحد أهم أدواتها في السيطرة على عقول الناس وقلوبهم، فبواسطة التدجين الدعوي، يمكن للأنظمة أن تخمد الأصوات الحرة وتمنع الحركات الإصلاحية من النمو والتطوّر، كما أن بعض الدعاة أنفسهم يجدون مصلحة في هذا التدجين، إذ يُكافَئون بالمنصب والمال مقابل الحفاظ على الخطاب المهادن.
* التدجين وآثاره على المجتمع
هذا الخطاب المدجّن يُفقد الدين قيمته الحقيقية كقوة تغيير، ويجعل من المجتمعات أُسرى للخنوع والجمود، فبدلًا من أن يكون الدين منطلقًا للإصلاح، يصبح حارسًا للوضع القائم، مما يهدد روح المواطنة الحقة، ويكبت الوعي الاجتماعي.
* أدوات التدجين في الخطاب الدعوي
من الأدوات التي تُستخدم في هندسة الطاعة الدعوية، استخدام الشعور بالذنب والتهديد بالعقاب الإلهي بشكل مُفرِط، حيث يُصوّر المخالف أو الناقد للدعوة المدجّنة بأنه خارج عن الإيمان، أو مهدد بالعقاب في الدنيا والآخرة، هذا الأسلوب يخلق بيئة خوف وتردّد تجعل الناس أقل قدرة على النقد والمساءلة، كذلك، تعتمد آليات التدجين على تبني خطاب التمييز بين “الصالحين” و”الضالين”، مما يعزز الانقسام ويمنع الوحدة والوعي الجمعي.
* التدجين الدعوي في التاريخ المعاصر
لم تكن هذه الظاهرة حديثة العهد، فقد شهد التاريخ أمثلة عديدة على توظيف بعض رجال الدين لخدمة أنظمة سياسية، ومن أشهرها تحالف رجال الدين مع السلطان في العصور الإسلامية المختلفة، حيث كان الخطاب الديني يُوظف لإضفاء شرعية على السلطة الحاكمة، وغالبًا ما كان ذلك على حساب قيم الدين الحقيقية التي تدعو للعدل والحرية، وفي العصر الحديث، استمر هذا النمط عبر أنظمة مختلفة، ما جعل التدجين الدعوي قضية مركزية تستحق الوقوف عندها بتمعّن.
* هل هناك حلول؟
إعادة بناء خطاب دعوي حرّ ومسؤول، يقرأ النصوص كلها بشمولية، ويجرؤ على التحدث بالحقيقة، مهما كانت صعبة، هو السبيل الوحيد لإحياء الدين كقوة تغيير وعدالة. قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه: 114)، وهذه دعوة للبحث والتفكير والنقد البناء.
في المقالات القادمة، سوف أسلّط الضوء على آليات التدجين، وأشير إلى تأثيرها على المجتمع، ونتعرف معًا على نماذج لمقاومة حقيقية تعيد للدين حريته ودوره الفاعل والشمولي والذي يعني حياةً كاملة بجميع تفاصيلها… ولكم منّي كل تحية وسلام.
– أما عنوان مقالة الغد إن شاء الله: السُّلطة والفقه: علاقة تكامل أم توظيف؟

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أبناء شعبنا وأمتنا
* مقالة رقم: (1966)
* 22. ذو القِعدة . 1446 هـ
* ألثلاثاء . 20.05.2025 م

* رؤية 2
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة: “التدجين الدعوي: هندسة الطاعة باسم النّص”
* عنوان المقالة الأولى: ” السُّلطة والفقه: علاقة تكامل أم توظيف؟ ” (2)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
حين سجد الفقيه على عتبة السلطان، انتُزعت من النصوص هيبتها، وذُبِحت مقاصد الشريعة بسكين التأويلات المأجورة، والسؤال الملحّ في هذا العصر: هل العلاقة بين السلطة والفقه علاقة تكامل تحقق العدل وتصون الأمة، أم هي علاقة توظيف تُفرغ الدين من محتواه، وتجعله خادماً لرغبات المستبدين؟
* نصوص تتحول إلى أدوات قمع
لقد وُجدت نصوص الطاعة في القرآن والسنة، لكنها نزلت في سياقات واضحة، مقرونة بقيود العدل، ومشروطة بعدم المعصية، ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ (النساء: 59)
فهل قال: “وأطيعوا أولي الأمر”؟ لا، بل حذف الفعل ليفهم القارئ أن الطاعة لولايتهم مشروطة ببقائهم في طاعة الله ورسوله.
لكنّ فقهاء البلاط استخرجوا من هذه الآية سلّمًا ذهبوا به إلى قصور الحكّام، ليعلنوا طاعة عمياء، ويصنعوا “إسلاماً سياسيًا” على مقاس المستبد، بينما الأنبياء -وهم صفوة الخلق– قالوا للظالمين: ﴿إنا بُرآء منكم﴾ (المُمتحنة:4) ورفضوا تسويق الظلم باسم الدعوة أو الصبر أو الفتنة!
* فقهاء في عباءة السلطة
في كل مرحلة من مراحل الأمة، كان هناك من “ينتفِع بالنص” لا “ينتفع به”، ترى أحدهم يُغلق أبواب الاجتهاد في وجه المظلوم، ثم يفتحها واسعة في وجه الطاغية! يسكُت عن قتل الأبرياء، ويُفتي بحرمة المظاهرات السلمية! يهاجم من ينتقد ولي الأمر، لكنه لا ينبس بكلمة أمام سياسات التجويع، والتطبيع، والانبطاح!
لقد حوّلوا فقه الموازنات إلى فقه المساومات، والمقاصد الشرعية إلى مقاصد سلطوية، كل ذلك بحجّة “الاستقرار”، و”الخوف من الفتنة”، وكأن الفتنة الكبرى ليست في تنصيب الظالم حاكماً باسم الدين!
* حين يتحول المنبر إلى منصة تبرير
أخطر ما يمكن أن يمرّ على الأمة أن يتحول الخطيب إلى رجل أمن، والواعظ إلى ناطق باسم المخابرات، والمفتي إلى بوق يبارك الصفقات، في هذه اللحظة، يفقد المنبر قدسيته، وتصبح خطبة الجمعة نشرة حكومية ممجوجة، تفقد فيها النفوس الثائرة آخر أمل في أن تجد في الدين سنداً للحق.
والسؤال: أي إسلامٍ يريدون تسويقه؟ الإسلام الذي نزل ليحرر الإنسان من عبادة العباد؟ أم الإسلام الذي يُقدَّم كوثيقة استسلام للحاكم؟!
* الفتوى حين تُفصَّل على مقاس الظالم
ما عاد كثيرٌ من المفتين يُفتون لله، بل يُفتون للحاكم، و”يحسبون أنهم يحسنون صنعًا” (الكهف: 104)
يُخيطون الفتوى على مقاس الظالم، ويضعون عليها ختم الشريعة، ثم يُسلِّمونها للناس على أنها دين الله. إنهم يرفعون حديث “اسمع وأطع” متى أراد السلطان، ويخفون قوله ﷺ: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”.
بل بعضهم يهوّن من دم المظلوم، ويعظّم “حرمة الخروج”، وكأن حياة الحاكم أهم من حياة الشعوب، وكأن الإسلام لم يأتِ لحفظ النفس، والعدل، والكرامة! لقد اختُطِفَت الفتوى، وصارت أداة قمعٍ لا إصلاح، وسوطًا بيد المستبد لا بلسماً في يد العالم.
* رسالةٌ إلى المنتفعين بالدين
أيها المبررون لظلم السلطان، اعلموا أن التاريخ لا يرحم، وأن الأمة بدأت تميّز بين العلماء الربانيين وبين “صنّاع الطاعة” في مختبرات القصور، الأمة لا تحتاج إلى من يسوّق لها الهزيمة باسم الصبر، بل إلى من يُعيد للنص روحه، ويعيد للفقه مكانته، ويعيد للحق كلمته.
لقد آن للأحرار أن يستردّوا المنبر، وأن يُعاد تعريف الفقيه: لا كمجرد حافظٍ للمتون، بل كصوتٍ للحق، لا يخشى في الله لومة لائم… ولكم منّي كل تحية وسلام.

-عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “توجيه النص: آليات انتقاء وتوظيف الآيات والأحاديث”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أبناء شعبنا وأمتنا
* مقالة رقم: (1967)
* 23. ذو القِعدة . 1446 هـ
* ألأربعاء . 21.05.2025 م

* رؤية 3
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة: “التدجين الدعوي: هندسة الطاعة باسم النّص”
* عنوان المقالة: ” توجيه النص: آليات انتقاء وتوظيف الآيات والأحاديث ” (3)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* تمهيد
في ساحة الخطاب الديني، يتجلى أحيانًا نمط مقلق من التعامل مع النصوص الشرعية، حيث يُنتقى من الوحي ما يخدم مواقف سياسية أو اجتماعية بعينها، ويُغفل ما يعارضها، هذا التوجيه للنص ليس مجرد اجتهاد خاطئ، بل أحيانًا يتحوّل إلى أداة هندسة للطاعة باسم الدين، وإليكم معالجة الموضوع من خلال عدة نقاط
* أولًا: الانتقاء بدل الاستيعاب
من أبرز آليات التوجيه: الانتقائية، حيث يُسلَّط الضوء على آيات الطاعة مثل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (النساء: 59)، دون إتمام الآية: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾، التي تشترط طاعة أولي الأمر بالحق.
* ثانيًا: التوظيف السياقي المغلوط
يُخرَج النص أحيانًا من سياقه الزماني أو المقصدي، فيُحمَّل أكثر مما يحتمل، مثال ذلك حديث: «اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك»، يُقدَّم وكأنه قاعدة مطلقة، بينما هو حديث مختلف في صحته وتأويله، وقد قُدّم في سياق ضبط الفتنة، لا شرعنة الظلم.
* ثالثًا: إقصاء النصوص الموازية
يُغفل المتحدث آيات النهي عن الظلم، مثل: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ (هود: 113)، وأحاديث محورية مثل: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر». وهذا التغييب يصنع خطابًا أحاديًا، يدفع نحو السكون لا الإصلاح.
* رابعًا: التلاعب بمقاصد الشريعة
يُعطل مقصد العدل، وهو من أعظم مقاصد الشريعة، لحساب مقصد حفظ النظام، فيُحرَّف الترتيب الفقهي، وتُضخَّم فتاوى السمع والطاعة حتى تصبح مظلة للسكوت عن الفساد، لا أعتقد أنني بالغت في الوصف أليس كذلك؟ أنظر حولك
* خامسًا: خلفية التوجيه
غالبًا ما لا يكون التوجيه نابعًا من اجتهاد علمي صرف، بل من موقع المتحدث وعلاقته بالسلطة أو من مصلحة مؤسسية، فيصبح النص خادمًا للمنبر أو الدولة، لا حَكمًا على الواقع.
إليك فقرة إضافية مناسبة تضيف عمقًا للمقالة وتتكامل مع موضوعها:
سادسًا: مسؤولية الفاعلين في مواجهة التوجيه المغلوط
لا يمكن أن يمر توجيه النصوص الشرعية بهذا الشكل دون أن يتحمّل العلماء والدعاة مسؤولية كبيرة في تصحيح المسار، فالعالم الحقيقي هو الذي ينقل النص بكل أمانة، ويبين مقاصد الشريعة السامية، ولا يخدم أجندات ضيقة أو مصالح شخصية، على العلماء أن يكونوا صوت الحق وسط زخم التوجيهات المشوهة، وأن يسعوا لتربية الوعي الديني الصحيح الذي يوازن بين الطاعة لله ولرسوله، وبين الحق في رفض الظلم والفساد، وإلا فإن المجتمع سيغدو مسرحًا لخطاب ديني موجه يخدم مصالح معينة على حساب العدالة والحرية، وهو ما يهدد مستقبل الدعوة والمجتمع معًا.
* سابعًا: لمحات تاريخية
• أحينًا في العهد العباسي، رُوّج لفقه الطاعة للمتغلب باستخدام أحاديث مفردة.
• وفي بعض مراحل العصر العثماني، قُمعت المعارضات بذريعة “الخروج على الخليفة الشرعي”.
• أما في زمن الاحتلال، فشُجّعت ثقافة الصبر بلا مقاومة، بتأويل خاطئ للآيات.
* ختامًا
توجيه النص مسألة خطيرة، إذ يتحوّل الوحي من مصدر للعدل والكرامة إلى أداة لضبط الطاعة وتدجين الوعي، وفي هذه الحالة يتوجب على العلماء أن يتحرروا من منطق السلطة، وأن يُعيدوا النص إلى مقصده، ليكون شاهدًا للحق، لا مطيّة للباطل… أليس كذلك أيها السادة؟… ولكم منّي كل تحية وسلام.

-عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “التفسير الانتقائي: هل يُسوّق النص للسلطة؟ ”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أبناء شعبنا وأمتنا
* مقالة رقم: (1968)
* 24. ذو القِعدة . 1446 هـ
* ألخميس . 22.05.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق