منوعات
عن #غسان_كنفاني والزمن
عن #غسان_كنفاني والزمن
محمود شقير…. همسة نت
1
كانت علاقة غسان كنفاني مع الزمن حادة قاطعة، ينطبق عليها القول المأثور: الوقت كالسيف، إنْ لم تقطعه قطعك.
ويبدو لي أن غسان كان يشعر بأن حصته من الزمن ضئيلة محدودة، إن لم يستثمر كل دقيقة منها بدا مقصراً غير جدير بالحياة. عزّز لديه هذا الإحساس أربعة أمور: الأول؛ نشأته الأولى التي جعلته جادّاً نشيطاً منتبهاً إلى أهمية اكتساب المعرفة والتزود بالثقافة، والثاني؛ إحساسه بقيمة كل دقيقة من وقته في المنفى لتدبير سبل العيش الكريم بعد اضطراره لمغادرة الوطن من جراء العدوان، والثالث؛ إصابته بمرض السكري في وقت مبكر من سني حياته، ما جعله معنيّاً باستثمار كل دقيقة من عمره قبل وصوله إلى النهاية التي قد لا تكون بعيدة، والرابع؛ طبيعة المعركة التي كان غسان يخوضها مع شعبه ضد العدوان، وإحساسه بأنه يحمل روحه على كفه في المواجهة اليومية مع العدو، وقد صدق حدسه وكانت له هذه النهاية المبكرة، لكنه لم يكن قد خرج من المعركة إلا بعد أن أكد حضوره في الحياة، هذا الحضور الممتد حتى الآن.
وقد أصبح غسان مقروءاً أكثر مع مرور الزمن من جراء عوامل عدة، أولاً: موهبته الأكيدة في الكتابة وقدرة قصصه ورواياته ومسرحياته على مقاومة الزمن وتخطي زمانها إلى أزمنة قادمة بسبب ما فيها من تميز وإبداع، وقابليتها لأن تتواءم مع شتى الأزمنة بحيث تبدو كما لو أنها كُتبت لكل زمان، وثانياً: مبادرة زوجته الوفية آني كنفاني إلى تأسيس جمعية ثقافية باسم غسان عُنيت وما زالت تُعنى بتعميم كتب زوجها الشهيد على أوساط الفتيات والفتيان في المخيمات الفلسطينية وفي المدارس والنوادي والتجمعات الشعبية، وكذلك من خلال ترجمة هذه الكتب إلى لغات عالمية عدة بلغت حتى الآن أكثر من عشرين لغة. وثالثاً: اضطلاع تنظيمه السياسي؛ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومعظم التنظيمات الفلسطينية ووزارة الثقافة الفلسطينية واتحاد الكتاب والأدباء، وتجمعات نقابية وسياسية فلسطينية أخرى بنشر إبداعات غسان كنفاني، وبتحويل بعضها إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية ومسرحيات؛ ما جعل أوساطاً جديدة من الكبار والصغار تتنبه إلى أدب غسان كنفاني، واعتماده بشكل أساسي في تحصيل الوعي والمعرفة.
2
ولأن “الأطفال هم مستقبلنا” كما قال غسان ذات مرة، فإن الجهات المذكورة أعلاه أسهمت في إيصال أدب غسان كنفاني إلى الأطفال؛ مضافاً إليها ظهور مؤسسات فلسطينية تُعنى بأدب الأطفال في السنوات الخمسين الماضية ابتداء من دار الفتى العربي التي تأسست في بيروت في سبعينيات القرن العشرين؛ مروراً بتجربة مركز أوغاريت ودار البحيرة ومجلتي جمعية الزيزفونة للأطفال في رام الله، ومكتبة كل شيء في حيفا، وانتهاء بمؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في رام الله التي تنشط منذ أكثر من ثلاثين سنة، وما زالت تنشط بمثابرة حتى الآن. ومضافاً إلى ذلك كله أسلوب غسان كنفاني السهل الممتنع في معظم ما كتب، ما جعل أدبه قريباً من ذائقة الأطفال ومن قدرتهم على الفهم والاستيعاب.
3
جاء العنوان “غسان كنفاني… إلى الأبد” الذي ظهر على غلاف كتابي عن غسان المكرس للفتيات والفتيان، بعد محاولات عدة لوضع عنوان مناسب للكتاب؛ يتواءم مع تجربة غسان كنفاني في الحياة وفي الإبداع وفي النضال الوطني التقدمي ضد العدوان.
بدأتُ ذلك بعنوان: “غسان كنفاني… الرحلة المدهشة”، وقد شجعني على هذا العنوان عنوانُ كتاب آخر أعددته عن الشاعرة الفلسطينية، أُمِّ الشعر الفلسطيني، فدوى طوقان، بعنوان: “فدوى طوقان… الرحلة الأبهى”، غير أن لجنة القراءة في مؤسسة تامر اقترحت عليّ أن أبحث عن عنوان آخر، فاقترحتُ: “غسان كنفاني… رحلة حب” بالنظر إلى أن غسان كان محبّاً للحياة، محبّاً لأسرته، محبّاً لوطنه، وقد دفع حياته ثمناً لهذا الحب، ولم تلبث اللجنة أن اقترحت عليّ البحث عن عنوان آخر ينسجم بشكل أعمق مع تجربة غسان ومع مادة الكتاب الذي كتبته عنه.
فانتبهت إلى النص المسرحي الذي كتبه غسان بعنوان: “جسر إلى الأبد”، حيث يتغلب الحب في هذا النص على الموت. وهكذا كان النص الأخير: “غسان كنفاني… إلى الأبد” الذي يعكس من جهة حضور غسان الفعلي من خلال أدبه في حياة الأجيال الراهنة، وفي حياة الأجيال التي ستأتي بعد، ومن جهة أخرى يعكس العنوان تصميماً وأمنية وأملاً بأن يظل غسان معنا ومع الأجيال الجديدة إلى الأبد، وفي هذا التصميم وتلك الأمنية إبطالٌ لمسعى المحتلين الصهاينة الذين اغتالوا غسان لكي يضعوا حدّاً لتأثيره الإيجابي في الأجيال الجديدة، فخاب ظنهم وسوف يخيب لأن غسان ما زال معنا وسيظل معنا إلى الأبد.
4
ومن حسن حظي أنني التقيت غسان كنفاني للمرة الأولى في العام 1965 حين زرت بيروت آنذاك وتعرفت إلى غسان، زرته في بيته ولمست إلى أي حدٍّ هو إنسان محب للحياة ومحب للناس، تلتقيه وتحسب أنك تعرفه من زمن سابق، بسبب من أريحيته وبساطته الإنسانية وابتعاده عن التكلف الشكلي والمظهرية الزائفة، وزرته في مكتبه في مقر جريدة “المحرر” التي كان رئيس تحريرها آنذاك، ولمست إلى أي حد كان ديمقراطيّاً في تعامله اليومي مع زملائه الصحافيين العاملين في الصحيفة، وكم كان نشيطاً مجدّاً في عمله وفي إنجاز المهام المطلوبة منه.
ومن سوء حظي أنني لم ألتق غسان مرة أخرى بعد ذلك اللقاء، لكنني كنت محظوظاً باللقاء مع صديق حميم له هو المثقف الفلسطيني محمد خالد البطراوي، اليساري الذي دخل الكويت بجواز سفر مزور أواخر خمسينيات القرن العشرين، وكان يعرف بالاسم المستعار محمد خليل حسين، الذي تعرّف إلى غسان في الكويت، وسكنا معاً في بيت واحد مع أربعة فلسطينيين آخرين، وكان محمد قد طُرد بعد ذلك من الكويت مع مئات من اليساريين الفلسطينيين والعرب، وعاد إلى الضفة الغربية، التي كانت قد أصبحت بعد نكبة فلسطين الكبرى عام 1948 جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، وأقام في مدينة البيرة وعمل في مدينة القدس.
وقد تعرفت إليه أثناء ترددي على مقر مجلة “الأفق الجديد” المقدسية، ونشأت بيننا صداقة أسفرت عن انحيازي إلى الفكر الماركسي بعد حوار معه استمر عامين، وكان أثناء لقاءاتنا العديدة يحدثني عن صديقه غسان كنفاني، عن جديته ومحافظته على الوقت، عن موهبته الأصيلة، عن اهتمامه بالقراءة كل ساعة وكل يوم، عن قصصه ورواياته، عن هواية الرسم التي كان يمارسها، وعن المقالات التي دأب على كتابتها ونشرها في صحف شتى في الكويت ودمشق وبيروت.
وأستطيع القول إن أحاديث صديقي محمد البطراوي عن صديقه غسان أسهمت في تعميق علاقتي بهذا المناضل المبدع الفنان، تلك العلاقة التي تعززت من جراء لقائي الشخصي الوحيد معه في بيروت، ومن قراءاتي المستمرة لكتبه وإبداعاته التي لا يُبليها الزمان.
5
ولعل تعرّف غسان إلى الدكتور جورج حبش؛ وهو أحد مؤسسي حركة القوميين العرب وقائدها الأول، لعب دوراً كبيراً في حياة غسان وقاد إلى انعطافة مدهشة في هذه الحياة الحافلة المتألقة، مرّة حين نظّمه في الحركة أوائل خمسينيات القرن العشرين، ومرّة ثانية حين دعاه في العام 1960، بعد أن توسّم فيه قدرات مؤكدة في الكتابة الإبداعية وفي العمل الصحافي، إلى مغادرة الكويت والقدوم إلى بيروت، بيروت التي كانت تحتضن الثقافة والمثقفين وكل المناضلين من أجل الحرية والتقدم والديمقراطية والعدالة، وذلك لينضم إلى هيئة تحرير مجلة “الحرية” الناطقة باسم الحركة.
كان الانتماء إلى حركة القوميين العرب والانضمام إلى هيئة تحرير الحرية قد وضعا غسان كنفاني على أول الطريق الذي سار فيه بكل تجرّد وتفانٍ واستعداد لتقديم التضحيات، وظل كذلك طوال اثنتي عشرة سنة، من لحظة وصوله إلى بيروت عام 1960 إلى لحظة استشهاده عام 1972، حيث برز نجمه في الأدب وفي السياسة، فأصبح الروائي المتميز بعد روايته “رجال في الشمس” وأصبح أحد القادة البارزين في الجبهة الشعبية، والمؤسس لمجلتها “الهدف” ذات التوجّه اليساري الماركسي، والمشرف عليها، فلم تفتر همّته حين وقعت هزيمة حزيران 1967، ولم يتوانَ عن مواصلة النضال وعن الكتابة الملتزمة حتى لحظة استشهاده على أيدي الموساد الإسرائيلي الذي اغتاله أمام بيته في بيروت.
كان غسان نجماً ساطعاً في سماء الفلسطينيين والعرب وكل محبي الحرية في العالم، وقد جرت المحاولة الآثمة لإنهاء حياته بهدف القضاء على تأثيره الإيجابي الفعّال في أجيال المستقبل، ولذلك تمّت عملية الاغتيال، لكن نجمه ظل ساطعاً وما زال كذلك حتى الآن وإلى الغد وما بعد الغد وإلى الأبد.