خواطر

حتى الحجر أحن من البشر.

اسماء الياس

قمت بزيارة إحدى القرى المهجرة. فقد وعدني رامز بزيارة لتلك القرى المهجرة. التي أصبحت تشكو الفراغ بعد أن طرد سكانها منها، ولم يبقَ فيها سوى الريح تتلاعب بأغصان الأشجار والوحشة والاشتياق لطفلٍ يلعب وامرأة تخبز على التنور، ورجل يقطف الزيتون. وأولاد يلهون على رمال الشاطئ يجرون وراء بعضهم البعض يضحكون كأن الحياة لهم وحدهم ولا أحد يشاركهم بها، كان الفرح في القلوب والوجوه التي تنطق منها السعادة.
لكن اين كل هذا ذهب؟
بعد أن جاء المحتل طرد من طرد وقتل من قتل. تلك القرى اليوم تبكي أهلها، حتى الحجر سمعته يسأل عن أصحابها. أين هم؟ وأين أصبحوا؟ هل ما زالوا أحياء أم غيبهم الموت؟
عيني كانت تشاهد وقلبي ينبض بشدة امسكت بيد رامز وقلت له:
-انظر إلى تلك الأشجار والسماء الصافية والجبال العالية، وتلك المساحات التي تشكو من الوحشة والفراغ الذي اجده بكل بقعة، أليس ذلك قمة الظلم بأن تبقى تلك القرى فارغة من سكانها.
لم يستطع الإجابة عندما نظرت نحوه وجدت دمعة قد تناثرت على وجهه والحزن قد غطى ملامحه، عانقته حتى ابعد الحزن عن وجهه. عندها قال لي:
-هل تعلمين بأني أزور تلك القرى لوحدي كلما اشتقت لساعة هدوء، أجيء هنا واستنشق النسيم العليل، وأنظر للجبال التي ترسو بذلك المكان مثل سفينة تأبى ان تبحر. كل ذلك لأنها تعشق ذلك الجمال الذي لن تجده بأي مكان في العالم، هنا فقط في هذه البقعة تجد الطبيعة الغناء البحر السماء الواسعة التي لا تفصلها حدود. كيف لقلب أن يتخلى عن كل ذلك ولا يبكي ولا يذرف الدمع لأنه فارغ من أن يسكنه بشر.
-معك حق شيء مؤلم أن يترك ذلك الجمال تتلاعب فيه الرياح. ولا يسكنه إنسان لأن العدو جاء وحطم الأبواب وسرق منهم الحلم والهدوء والسلم. كيف للحياة أن تستمر وهناك عدو يحمل السيف والترس. ويقتل كل من تحرك حتى لو كان قط.
-حبيبتي شذى تمتعي بالجمال هيا حتى نجلس هناك تحت تلك الأشجار وارفة الظلال. استنشقي عبير الأزهار ورائحة البحر والنسيم الذي ينعش الأفكار. فأنت كاتبة وتعلمين بأن الكاتب بحاجة لمكان هادئ حتى تتفتق قريحته عن أجمل الأفكار وأبدعها، وهذا المكان مناسب.
-حبيبي في كل مكان أنت فيه يصبح بالنسبةِ لي من أجمل الأماكن على الاطلاق.
-هل تذكرين عندما اخذتك وذهبنا لزيارة رأس الناقورة وبعودتنا مررنا بعدة قرى هجر أصحابها. قلتِ لي يومها لماذا لا تأخذني حتى نزور تلك القرى التي سمعت عنها لكن لم أزرها. يومها قلت لكِ من عيني حبيبتي سوف نذهب ونزورها سوياً. واليوم لأني معك ولأن كل هذا الجمال والهدوء والصفاء حولنا لا بد أن تأتي الأفكار حتى اكتب قصة لكي تكون مرجعًا للأجيال. هل أنت معي بهذا الكلام؟
-أنا معك أين سأذهب. هل تعتقدين بأني أستطيع أن أتركك واذهب عنك بعيدًا؟ لا أستطيع. هل تعلمين لماذا؟ لأنك أنت وهذه البقعة من الأرض واحد. أنت حبيبتي التي لا أستطيع العيش من دونها. وهذا المكان هو المتنفس الوحيد الذي كلما جئت إليه أشعر بأني أحضنك معه.
-هل تعلم بأني كثيرًا ما سمعت والدي يتحدث بحرقة عن تلك القرى يومها كنت صغيرة بالعمر لم أكن أعي لماذا ينتاب والدي الحزن كلما تحدث عن تلك الفترة القاسية من حياة كل فلسطيني. شعور مؤلم كأنه فقد أحد أولاده. اليوم بعد أن كبرت ونضجت علمت لماذا كان والدي يتألم وأحيانًا يبكي ويتحسر شاكيًا ظلم البشر.
حديثه في كل مرة يتجدد أحيانًا يحدثنا عن البيوت التي كانت عامرة بسكانها، واحيانًا أخرى يحدثنا عن التهجير القسري وارغام الاف من البشر ترك بيوتهم والنزوح نحو البلدان القريبة من فلسطين. حدثنا أيضًا كيف هو والرفاق ساعدوا الكثير من العائلات الذين نزحوا من العودة لبلادهم. أحاديثه راسخة إلى اليوم في عقلي، لم أنسَ ولا كلمة ولا نظرة كأني أراه بقامته الفارعة وملامحه الطيبة التي فيها حب الدنيا.
سوف يسترجع الفلسطيني حقه مهما طال الزمن ستبقى القرى المهجرة في ذاكرتنا جميعًا. لن ننساها وسأبقى أكتب عنها وسيبقى قلمي يجود بأجمل المعاني من أجلها. سوف أصورها وانشر صورها على الحيطان وبكل مكان حتى لا ننساها. وكيف ننساها وهي محفورة في قلوبنا.
هي الباقية والانسان في زوال. أحبك بلدي وأحب ترابك، فأنتِ وطني الذي لا أبدله بأي وطن في العالم..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق