اقلام حرة
مذياع ماركوني- قصّة قصيرة
قراءة الكاتب عامر عودة . همسة نت
المسافة ما زالت طويلة حتّى وصولكَ إلى البيت، ولا بدَّ من شيء يسلّيك على هذا الطّريق الصّليُّ خاصّة أنَّكَ عالق بزحمة سير كبيرة. تشغل المذياع على إحدى المحطّات العربيّة المَحلّيّة، فإذا بأغنية هابطة لا تَفهم من كلماتها شيئًا، وصوت لشاب عملوا على تجميله في الأستوديو ليبدو رفيعًا ناعمًا ورقيقًا، أمّا الموسيقى فهي مزيج من آلات كهربائيّة تصدر ضجيجًا متواصلًا للتّغطية على عيوب صوتهِ المخنّث.
تنتقل إلى محطّة عربيّة محليّة أخرى، وإذا ببرنامج حول رأي الجمهور عن آفة العنف والجريمة في مجتمعنا العربي في إسرائيل. لمْ يكن هناك شرح أو تحليل من مختصٍّ في هذهِ الأمور، بل مجرّد لغو معظمُه مبتذلٌ مكرّرٌ ومُمِلٌّ من قِبل المتّصلين. ما هيَ الفائدة المرجوة من هذا البرنامج، إذا لم يكن هنالك من يضع النّقاط على الحروف، حول هذهِ القضيّة المهمّة جدًّا لمجتمعنا الغارق في هذا المستنقع؟!
تنتقل إلى محطّة عربيّة أخرى وهذهِ المرّة ليست محلّيّة. وإذا بمذيع يعتقد نفسه أرْيَب! يتكلّم بكياسة عنِ المواطَنة الصّالحة وغير الصّالحة، وعن حقوقِ المواطن وواجباته تجاهَ الوطن! فتتساءَل: ” كيف يمكن أنْ يكونَ المواطن صالحًا، في دولة لا يستطيع فيها هذا المواطن أنْ يُعَبِّر عن رأيه بحرّيّة؟! فهو عالق بين مطرقةِ السّلطة وسدّانِ المنظّمات والحركاتِ الدّينيّة الظّلاميّة!”
وهكذا… تنتقل من محطة إلى أخرى، حتّى تملّ من ثرثراتهم غير المفيدة وأغانيهم الهابطة. أمّا الأغاني الأجنبيّة والعبريّة فلا تطيق سماعها، لأنَّ مَن اعتاد على تذوّقِ الأغاني الطّربيّة، لن تعجبه إلّا القليل جدًّا من تلكَ الأغاني. وتتساءَل مرّة أخرى: ” هل كان مخترع المذياع، الإيطالي غولييمو ماركوني، سيخترع هذا الجهاز لو علِم أنّه سيتحوّل إلى آلة تبثُّ السّخافات والثّرثرة الفارغة؟!”
كم أنتَ عظيم يا ماركوني وقدِ اخترعتَ هذا الجهاز قبل أكثر من قرن، وكم أنتم وضعاء يا مَن لا تستطيعون استغلال هذا الاختراع لإطرابِ المستمعين وإفادتهم ثقافيًّا وعلميًّا! كم هو عظيم اختراعك للمذياع يا ماركوني الّذي نستطيع الاستماع إليه في كلِّ مكان على كرتنا الأرضيّة، داخلَ البيوت أو خارجها، وكم هي سخيفة تلكَ البرامج الّتي تلوك الوقت دونَ الاستفادة منها! لكن ما العمل الآن؟ الشّارع مزدحم وحركةُ السّير بطيئة والطّريق طويل…
اعتراك المَلل ومذياع ماركوني لا يوجد به ما يسلّيك ويؤنسك. أنتَ بحاجة لأغانٍ طربيّة بديعة بكلماتها، عذبة بموسيقاها وجميلة بصوت مَن يؤدّيها. عندها لا يهمّك طول مسافةِ السّفر.
لم يبقَ أمامَك قبل أن يخالطَ النّعاس جفنيْك، إلّا أنْ تبحث بواسطة هاتفك الخلوي عن أغنية، لتستمع بها عن طريق “البلوتوس”. صحيح أنّكَ تحاول قدر المستطاع عدم استعمالِ الهاتف الخلوي أثناء القيادة لأنَّ القانون يمنع ذلك، لكنّ للضّرورة أحكام؛ وحركة السّير البطيئة تساعدك في البحث عمّا تريد دون أنْ تشكّل خطرًا على نفسك وعلى السّائقين في الشّارع…
تبحث في “يوتيوب” عن أغنية لأُمِّ كلثوم. ليس الآن أفضل منها لسماع أحد أغانيها، فبالإضافة إلى أنّها جميلة فهي طويلة، ولستَ بحاجة لبحث آخر عن أغنية أخرى حتّى تصل بيتك…
وما أنْ تبدأ المقدّمة الموسيقيّة للأغنية، حتّى يغتال انبساطك على غيلة صوتٍ آتٍ من خَلفِكَ، يطلب منك الوقوف على شفيرِ الشّارع. من أين جاء هذا الشّيطان؟! أين كان مختبئًا؟! وما أن تقف جانبًا حتى يأتي نحوكَ رافلًا، ناظرًا إلَيك نظرةً شَزِرة قائلًا بصوتٍ أَجَشٍّ:
– سأحرّر لكَ مخالفة سير. فقد استعملتَ هاتفك الخلوي أثناءَ القيادة!
(عامر عودة)