أخبار عالميه

نساء زانسكار”.. أشواك على طريق الزواج والرهبانية في قمم الهملايا ٣٠ سبتمبر ٢٠٢١

تقرير منقول عن الجزيرة الوثائقية يستحق الاحترام.همسة نت

خاص-الوثائقية

على قمة ستوندج، التي ترتفع 5170 مترا فوق سطح البحر، يقع إقليم زانسكار، تلك البقعة الرابضة على قمم جبال الهملايا المتجمدة، حيث هنالك عالَم بوذيّ متوار عن أنظار الجميع، إلا الرهبان والرب.

تعيش النساء في هذا المكان القصي من العالم حياة نمطية لا تخرج عن مسار التقاليد المتوارثة منذ آلاف السنين، شاءت المرأة أم أبت سيكون عليها أن تختار في مرحلة مبكرة من حياتها بين اختيارين لا يلتقيان، وليس للمرأة في هذه البقعة النائية أن تصنع لنفسها طريقا ثالثا.

تفتح الجزيرة الوثائقية ملفات تتعلق بحياة النساء هناك ومعاناتهن اليومية، في فيلم حمل عنوان “نساء زانسكار”.

“أنا راحلة، سأذهب بإذنكما أو بدونه”

في قرية (كارشا) التي ترتفع 3800 متر عن سطح البحر، وفي بيت من بيوت القرية، وتحت جنح الظلام البهيم، وفي درجات حرارة تنخفض إلى ما دون 30 تحت الصفر، ويدور هذا الحوار الساخن:

– والد الفتاة “بالكيت”: تريدين أن تصبحي راهبة؟ ووالدتك توافقك الرأي؟ ومن سيهتم بأعمال المنزل؟ إنك لا تصغين لكلامي أبدا.

– والدة “بالكيت”: إنها تطلب منا النصيحة، ونيتها حسنة، جيد أن تصبح راهبة، لا يمكن أن نبقيها في كنفنا إلى الأبد.

– الوالد: ومن سيقوم بالعمل؟ لم يبق أحد يساعدني.

– الوالدة: سوف تصبح “بالكيت” راهبة، وتكرس نفسها لخدمة الدين، هذا عمل أيضا، ستعرف بنفسها ما إن كان قرارها صائبا.

– “بالكيت”: أنا راحلة، سأذهب بإذنكما أو بدونه.

– الوالدة: إنها تلتمس رضانا ورضى عمتها.

– الوالد: لا، لن تتمكن من ذلك، إنها ابنتنا الوحيدة ويجب أن تتزوج.

– الوالدة: إنها رغبتها، وذلك خيارها، ولا يحق لك أن تمنعها، لاحظ أن الجميع سعداء بقرارها باستثنائك، ثم إنها لا تريد الزواج، هب أنها تزوجت من أحدهم ولم يكن صالحا، أما إذا أصبحت راهبة فستكون سعيدة وستعتني بنا.

– الوالد: حتى جدتها لم تكن راغبة لها بهذه الرهبانية، لقد ماتت وهي توصيني أن لا أدع “بالكيت” تصبح راهبة، وأنا أقسمتُ لها على ذلك.

“ستحلقين رأسك وتصبحين راهبة”.. أحاديث الصومعة

تركت “بالكيت” هذا الحوار الصاخب، وخرجت من المنزل غاضبة باكية، وتوجهت إلى صديقتها الراهبة “توكجيه” التي تتفهم رغبتها وتشجعها. وتسكن “توكجيه” في صومعتها المنعزلة، وهي مُكِبَّة على تعلم الصلوات وقراءة الكتب المقدسة لدى البوذيين.

– أكاد أتجمد من البرد يا “توكجيه”، الثلوج تتساقط بغزارة في الخارج، والرياح عاتية.

– لماذا أتيت يا صغيرتي؟ يداك متجمدتان كالثلج، هل تشاجرت مع والدك مجددا؟

– أجل يا عزيزتي، فاتحته في موضوع الرهبانية مجددا، وقلت له هذه رغبتي، ولكنه ثار من جديد، وصاح في وجهي بأنه لن يسمح لي بأن أكون راهبة.

– لا تحزني يا عزيزتي، سأتحدث إليه غدا، حتى لو فقد أعصابه، وسوف أساعدك كي تصبحي راهبة، وباب الدراسة مفتوح لك هنا، اهدأي ولا تستسلمي، ستحلقين رأسك وتصبحين راهبة، هل تشعرين بالتحسن الآن؟

“أن لا ترتكبي إثما ولا تكذبي ولا تؤذي أحدا”.. طريق الرهبان

على هذه المرتفعات القاحلة يمتد الشتاء القاسي لتسعة أشهر، وتنخفض فيه درجة الحرارة إلى ما دون 30 درجة مئوية تحت الصفر، وينقطع الاتصال مع العالم الخارجي، وسط كفاح مستمرّ من الناس هنا للحفاظ على الدفء وإطعام الحيوانات، حيث يعمل الجميع يدا واحدة للبقاء أحياء.

يسري قانون التقاليد الصارم على الجميع، ومع ذلك يبقى الكثير بين الأب وابنته طيَّ الكتمان، وتتسابق الأسرة الواحدة في إطعام الحيوانات والعناية بها، فهي ثروتهم الحقيقية في التنقل والحليب واللحوم والفراء.

وعن سبب قرارها بأن تصبح راهبة، تقول “بالكيت”: لا أريد حياة كهذه، هنا يمكن أن تتزوج الفتاة من رجل سيئ، ما عساها تفعل إذا جاء ثملا وضربها؟ والشجار بين الأزواج لا ينتهي، ولذلك فأنا مقتنعة بأنني سأكون أسعد حالا عندما أصبح راهبة.

ومع أن والدها يرفض الإصغاء لها، فإنه متوجه لاستشارة رهبان الدير، بصفتهم ملاك الأرض ويستخدمون أهالي “كارشا” الذين يقدمون لهم العطايا والقرابين مقابل إقامة الشعائر الدينية، وسيصغي إلى العجوز “تينليه” الذي هرب من التبت عبر الجبال سيرا على الأقدام، ليجد ملاذا له هنا في الهند.

توجهت “بالكيت” إلى “تينليه” الذي باركها قائلا: اختيار التدين لا يعني التخلي عن الوالدين، فيمكن العناية بهما، وفي الوقت ذاته يتمتع الراهب بصفاء الذهن والسلام النفسي، المهم أن لا ترتكبي إثما ولا تكذبي ولا تؤذي أحدا، وركّزي في مسارك، ستأتيك الإشارة وأنت تقفين أمام تماثيل “لاكاند” المقدسة.

بكأس شاي يقدمه الخاطبون.. يتم خطبة الفتاة من أهلها

“تينزين” الفاتنة.. مشروب تشانغ يرسم رحلة الزواج

أما “”تينزين فهي صديقة “بالكيت”، وهما متلازمتان منذ الصغر، وكل شباب الحي متيمون بالجميلة “تينزين”، لكن حياتها توشك أن تتغير إلى الأبد، فقد جاء رجال من ناوفال وأحضروا معهم شراب تشانغ من أجلها، وقد تناول والدها الشراب بالنيابة عنها، وهذا يعني أنه سيزوجها برجل من ناوفال دون الرجوع إلى رأيها، لاقتناعه أن ما اختاره لها هو في مصلحتها.

تبكي “تينزين” بمرارة، وهي تخشى أنها لم تشبع بعدُ من حياتها مع صديقاتها وعائلتها، وتحاول والدتها إقناعها بأنها سوف تعود إلى الحي، ولن تبقى طول عمرها بعيدة، وأن حياتها ستكون سعيدة، وأن اختيار والديها لها كان الأفضل، وقد تندم إذا لم تسمع لنصحهما، ولن يعتني بها أحد، فالحياة صعبة على الفتاة هنا، نفس الأمر يتكرر دائما، فإذا شرب والداها شراب تشانغ فقد فُرض عليها الزواج وعليها الإذعان.

عند طلب الفتاة للزواج، يُقدم الشاي بالزبدة مع جعة الشعير، وهو يعرف بمشروب تشانغ، وتحدث مقايضة بالشعير والنقود، وهذا ما توارثته الأجيال ومطبوع في الذاكرة الحية ومكتوب في الكتب المقدسة عندهم، وتتكرر الإيماءات والرموز دونما تغيير لإتمام الاتفاق، فهذا دستور زانسكار، ويجب التقيد به حرفيا، ولكن لا أحد يتحدث عن حزن الفتاة التي ستنتقل إلى عائلة جديدة، ولا ندري هل ستكون سعيدة أم لا.

في اللقاء الأخير بين “بالكيت” و”تينزين” تتبادل الفتاتان أحاديث الوداع، وتبكيان بحرقة، فسوف تفترقان من هذه اللحظة، إحداهما ستصبح راهبة والأخرى ستتزوج، وهذا هو مصير الفتيات دائما، يجبرن على ترك الصديقات والعائلة، “كفكفي دمعك يا عزيزتي ولا تحزني”، هذا لسان حال كل من الفتاتين للأخرى.

صوامع الرهبانية.. ملاذ النساء الهاربات من الزواج

إنها احتفالية ليلة الأحلام، يصحبها الغناء واحتساء التشانغ، وهي مناسبة خاصة للرجال حيث يغنون في كل خطوة من المراسم، بينما يختطف الفرسان “تينزين” في اليوم الذي تحدده كتب المنجمين، وفي تلك الأثناء ترقص الفتيات والشبان على أنغام أغنية “لا تزال الأحلام ممكنة”، وهي أحدث أغنية في منطقة لاداخ القريبة.

اختارت “توكجيه” صديقة “بالكيت” الرهبانية هربا من الزواج، وهي وحيدة لا عون لها في البقاء إلا يداها، تعمل في المزارع وتخدم في البيوت، لكنها حرّة. تقول عن الفتيات إن بعضهن يعرفن طريقهن جيدا، يتزوجن أو يترهبن، ولكن أكثرهن لا يستطعن تحديد مستقبلهنّ، ترى إحداهن مقبلة على الرهبانية، ثم ما تلبث أن تترك الدير وتتزوج، وأخريات يأتين للدير منذ نعومة أظفارهن ويبقين فيه للنهاية.

تؤَمِّن الرهبانية ملاذا للنساء للفرار من الزواج، وهي الملجأ للقلوب المحطمة، فهذه “بالكيت” تحكي أنها أُغرِمت بشاب من القرية أحبها كثيرا، ولكنه فاجأها بأن والديه خطبا له فتاة أخرى، فبكت بألم شديد، ولم تعد تربطها به علاقة منذ ذلك الحين، ثم لقيها بعد ثلاث سنوات وسألها إن كانت ستصبح راهبة فأجابته بنعم، فأجهش بالبكاء وقال لها أنت فتاة صالحة وتستحقين السعادة.

في بلدة زانسكار يأتي الفرسان سفرا على خيولهم من أجل أخذ العروس من أهلها

موكب الفرسان.. طبول ومزامير وشراب وأموال وفيرة

قام العرّاف بتحديد موعد الزفاف، وقال إن موكب فرسان العريس الـ”نيوتبا” يجب أن يتحرك في اليوم الثالث من الشهر الثاني عشر، وبحلول اليوم الرابع يجب أن تكون الفتاة في منزل الشاب. وفي اليوم المحدد يصل الفرسان لأخذ الفتاة إلى عائلتها الجديدة، ويجب عليهم أن لا يذوقوا طعم النوم طول رحلة الذهاب والإياب قبل إتمام مهمتهم.

في تلك الأثناء تقوم أمالي بالتحضير لزفاف ابنتها، ولإظهار ثراء العائلة يجب تخمير 100 كيلوغرام من الشعير لعشرة أيام حتى يصبح شراب تشانغ، وتتحدث عن نفسها أنها تزوجت في سن 18، ولم يكن قد خطر ببالها الزواج، كانت ستصبح راهبة أو تبقى مع أهلها، ولكنْ تحت الأمر الواقع أصبحت أُمّا لأبناء كثيرين ومسؤولة عن الحقل والزوج، وهكذا تمضي الحياة.

ويجب كذلك تحضير رغيفين من الخبز لكل قروي، حتى الأطفال والمتغيبين عن الحفل، أو ما مجموعه 3000 رغيف، قبل أن يظهر فرسان العريس في الأفق، حيث تتعاون نساء القرية لتحضير ما يلزم، ويتبادلن الذكريات والقصص المتكررة عن الزواج.

ها هو الموكب يلوح من بعيد، الفرسان يستحثون خيولهم على السرعة، وبعضهم يضرب الطبول وآخرون ينفخون المزامير، بينما فتيات القرية ونساؤها يرقبن الموكب من مكان مرتفع قرب الدير، وفي بيت العروس يجتمع الحكماء لإتمام عقد الزواج وتحديد المهر وتوزيع الأقمشة على الجميع، وتعقد مسابقة العروس القادمة حيث تتوحد النساء للحصول على أكبر قدر من النقود من عريس المستقبل.

عند وصول الفرسان يجتمعون مع أهل القرية في ساحةٍ لإقامة طقوس الـ”بومبا”، وهي نفس الطقوس التي تقام في كل قرية، حيث يغني الفرسان ويرقصون ويأكلون، ثم يقدمون المال شاكرين، وهي طقوس باهظة الثمن ولكنها شرف لمن وقع عليه الاختيار، وهي طريقة قديمة لتقاسم الثروة في المجتمع.

أم العروس تعد “البيراك” وهو غطاء الرأس الثمين الذي ستعطيه لابنتها كما ورثته هي عن أمها

البيراك.. تاج العروس المتوارث بين أجيال الأمهات

في بيت العروس تجتمع صديقات العروس المقربات ويقمن بتغسيلها وتصفيف شعرها، وهي ما زالت تبكي بحرقة وأمها كذلك. يفترض الوالدان أن الزواج في مصلحة كل فتاة، هكذا يعتقد الوالدان، ولكن هذا لا يخفف من صدمة الفراق عند الطرفين، حتى والدها ينتحب وينشج وهو يقول: سوف أزورها في بيتها الجديد، إنني حزين جدا لفراقها.

تنهمك أم العروس في إعداد البيراك، وهو غطاء الرأس الثمين الذي ورثته أمالي والدة “تينزين” عن والدتها، وستعطيه “تينزين” لابنتها أيضا لمواصلة سلسلة التوريث، وذلك بعد إضافة حجر حمايةٍ آخر من الفيروز الذي يرمز للجيل الجديد، والأمل في حياة سعيدة. وفي الخارج ينهمك الفرسان في مواجهة فريق العروس “ياتوباه”، في مبارزة غنائية على الطريقة التبتية التي لم تتغير على مر القرون.

قبيل استقبال الفرسان القادمين لأخذ العروس، يحضر أهل القرية حوالي 3000 رغيف خبز لإطعام الناس

“أتمنى لها السعادة”.. نهاية الحفل البهيج وبداية الفراق الكئيب

يستغرق وصول الفرسان إلى باب بيت “تينزين” عدة ساعات، وهم يتقدمون خطوة بخطوة، ويتضمن ذلك طقوسا غريبة كثيرة؛ طائر أسطوري بساق مكسورة، ومجسم يأخذ شكل الألماس يمثل بيت الآلهة، وقوس وسهم، ومحاكاة للقاء العروسين يقدمها مغنّ بارع. وأخيرا تجلس “تينزين” برفقة صديقاتها وتنتظر خاطفيها، ويجب أن يتعرفوا عليها وهي تلتف مع “بالكيت” بقطعة قماش، وتصبح من العائلة الجديدة ما إن يشير إليها قائد الفرسان “ماتيتبا” بسهمه.

تستمر احتفالات الزواج ثلاثة أيام، ويسعد الجميع خلال الأشهر القليلة الأولى، ومع مرور الوقت يولد الأطفال وتكثر المشاحنات بين الزوجة وأهل الزوج، وقد يصير الأمر غير محتمل، وهذا ما تحاول الفتيات تجنبه بالهروب إلى الرهبانية.

توارت “تينزين” خلف الأفق، وهي تبكي شبابها المسروق، وبقيت “بالكيت” تفكر في مصيرها، حيث تقول وهي تبكي بمرارة: قد يكون الزواج جيدا لـ”تينزين”، ولكنني حزينة لفراقها، لطالما كنا معا كل يوم، سأفتقدها جدا، أتمنى لها السعادة، فهي فتاة طيبة وأهل زوجها أناس جيدون، بينهم صلة قرابة.

العروس تنزين بعد انتقالها إلى بيت زوجها

منزل الأصهار.. زوج لطيف وعائلة ودودة

قررت “بالكيت” أن تشق طريقها في الرهبانية، وسوف تتوجه إلى دارمسالا التي هي مفر “دلايلاما” الزعيم الروحي للتبت، بينما صديقتها “تينزين” تستمع الآن إلى طمأنة حماتها بأنها سوف تكون لها أما ثانية، وتدعوها إلى السكينة وعدم القلق، أما حموها فهو يدعوها إلى زيارة أهلها إذا شعرت بالضيق أو الضجر، ويطمئنها أن الأعمال قليلة في الشتاء، لكنها تزداد صيفا.

زوج “تينزين” شاب لطيف أخبره أبواه ذات يوم أنهما وجدا له زوجة مناسبة، وهي فتاة صالحة وتعمل بجد، لم يكن قد عرفها من قبل، أما الآن فهي أحد أفراد عائلتهم، وعليها أن تقوم بكل الأعمال التي تتطلبها الحياة العائلية، وبينما كان العمل اختياريا في بيت أبيها، فهي الآن تخجل إذا رأت زوجها وحماتها يعملان وهي جالسة، وقد ترى في عينيهما نظرات التأنيب والمعاتبة.

في السابق لم تكن الفتيات يتلقين أي تعليم ديني حقيقي، ولم يكنّ يلتحقن بالمدارس مع الأولاد، بل يبقين في البيوت ويقمن بكافة الأعمال المطلوبة في المنزل والمزرعة والمرعى، ولهذا فإن قرار “بالكيت” بدراسة الدين والرهبانية لقي ترحابا ومباركة وتشجيعا من والدتها التي لم تذهب إلى مدرسة قط، وكذلك من صديقتها الراهبة “توكجيه”.

في منتصف الشتاء يصنع الرهبان الـ”ماندالا”، وهي ترمز إلى صورة الكون المثالي، وتقدم قربانا للآلهة لإحلال السلام والرخاء في القرية. ولكنها تُتلف سريعا وتلقى في النهر، ذلك أنها تمثل دورة الحياة القصيرة والمتجددة.

رحلة الحج الطويلة التي بدأتها بالكيت نحو الرهبنة تقطع فيها 120 كيلومترا قبل وصولها إلى الدير

طريق دارمسالا المحفوفة بالثلج القاتل والنمور.. رحلة الحج

سوف تتبرع والدة “بالكيت” بالـ”بيراك” وبقية حليها للدير، ذلك أنها لن تكون من حق ابنتها لأنها لن تتزوج، وهذا أمر يترك غصة وحزنا في قلب الأم إذا لم تورث حليها لابنتها.

حانت لحظة الفراق، فها هو أبو “بالكيت” لا يتمالك نفسه ويجهش بالبكاء والعويل على ابنته. إنه في حالة يرثى لها، وفي الجوار تجتمع نساء القرية لتوديع “بالكيت” بالبكاء كذلك، وعبثا يحاول والدها أن يجد الكلمات المناسبة ليودعها لكنه لا يستطيع.

تبدأ رحلة “بالكيت” عبر نهر تشاندار المتجمد، فهو الطريق الوحيد إلى ليه عاصمة إقليم لاداخ، ومن هناك إلى دلهي، ثم إلى دارمسالا التي تبعد 120 كيلومترا على طول شريط ضيق يمتد بين جبال يزيد ارتفاعها عن 5000 متر، ونظرا لاندفاع النهر تحت الأقدام فيجب فحص الجليد بقضيب حديدي قبل المجازفة بالمضي قدما، فخطوة واحدة خاطئة قد تؤدي إلى الموت.

هذا هو ثمن حرية “بالكيت”، أول من يخوض هذه المخاطرة من قرية “كارشا”، وإلى جانبها “توكجي” التي تساندها، ويقوي من عزيمتها الرهبان الذين يرافقونهما في رحلة الحج هذه، والمطلوب هو التماسك وعدم الخوف، فالطريق محفوف بالمخاطر، وفيه مياه عميقة ومرتفعات شاهقة، ولا يسقط إلا الخائفون وضعاف القلوب، وتستغرق رحلة الحج هذه مدة طويلة قد تمتد إلى خمس سنوات.

ومما يزيد الرحلة صعوبة وجود بعض الحيوانات المفترسة كالنمور، ويتسبب ذوبان الجليد في جريان الماء، الأمر الذي يدعو الفريق إلى طرق التفافية تتضمن مرتفعات شاهقة من أجل العبور، وهنا بدأت “بالكيت” بالبكاء وهي تصعد الجبل الشاهق، إنها تخشى السقوط، ولولا الرجال الذين في الرحلة لسقطت بالفعل، إنها ليست متأكدة الآن إن كانت ستكمل الرحلة أو لا. لم تكن تتوقع كل هذه المشقة.

الراهبتان “بالكيت” وصديقتها “توكجيه” تؤديان آخر صلاة لبوذا قبيل عودة الأخيرة إلى زانسكار

“إنني سعيدة للغاية”.. عبير الحرية وسجن الصومعة بدير غيدن

ستة أيام من المشقة شارفت على الانتهاء، وكأن هذه البداية المروعة بمثابة رحلة للذات تواجه فيها الروح العَزْلاء عالما شاسع الأرجاء، كانت ضرورية للولادة والحياة الجديدة، إنها نقطة تحول أبدي. وها نحن أخيرا في دارمسالا، إنها بلدة تفوق الخيال، مدينة العجائب والأشياء الجديدة، الفاكهة والسيارات والناس وموكب “دلايلاما”.

تتوجه “بالكيت” وصديقتها “توكجيه” إلى ضاحية مكلاود غانغ بين أشجار الصنوبر السامقة، حيث انتقل “دلايلاما” وبعض حاشيته من التبت إلى هذه البقعة التي تسمى سقف العالم، وأما “بالكيت” فهي تبحث لنفسها عن مكان في الدير. لم تكن طريقها وردية كما توقعت، فقد رفضها أول دير بحجة عدم وجود مكان لها، ونصحتها الراهبة هناك أن تبحث عن مكان في الأديرة الكثيرة المنتشرة في المنطقة.

وبعد بحث طويل هدتها خطاها إلى دير غيدن، وهناك بدأ كبير الكهنة “ديمالوتشي رامبوشيه” يلقنها الصلوات والعهود والوصايا، ثم قص خصلة من شعرها، وتلك علامة على ترك حياتها السابقة وقبولها في الدير، ثم سيصار بعد ذلك إلى حلْق شعرها كاملا بالموسى. لقد أصبحت “بالكيت” راهبة، وستكرس حياتها منذ الآن فصاعدا للدين والدراسة.

تقول “بالكيت” بعد أن استقر بها المقام في الدير: سأرسل بعض الصور إلى “تينزين”، وسأكتب إلى والديّ، وسأرسل لهم بعض الصور أيضا، أنا سعيدة جدا، ففي غضون عشرة أيام من وصولي إلى هنا وجدت ديرا وصومعة، أنا محظوظة حقا، عندما وصلت إلى هنا قبل أسبوعين لم أكن أعرف أحدا، كان ذلك قاسيا، أما الآن فالأمور تتحسن، إنني سعيدة للغاية.

“فنوربورينغا” هو أحد أقدس المواقع في الهند، وفيه تمثال بوذا الذهبي

“قولي لوالديّ أن لا يقلقا علي”.. الصلاة الأخيرة تحت أنظار بوذا

ستبقى “بالكيت” في الدير مدة خمس سنوات متواصلة، ما بين عمل وصلوات ودراسة، وستتعلم اللغتين التبتية والإنجليزية والفلسفة ومهارات الحاسوب والنصوص الدينية.

في الليلة الماضية رأت “بالكيت” صديقتها “تينزين” في المنام، صورتها لا تفارقها، لقد عاشتا سنوات الطفولة والشباب معا دون أن تفترقا، “سأراسلك كثيرا يا عزيزتي، أرجوك زوري والديّ من حين لآخر، وطمئنيهما عن أوضاعي، وتناولي طعام العشاء معهما، وساعديهما إذا احتاجا لذلك”. ثم تغرق “بالكيت” من جديد في نوبة بكاء شديدة.

مضت خمس سنوات، وها هي “بالكيت” برفقة صديقتها “توكجيه” تؤديان الصلاة الأخيرة في نوربورينغا وهو من أقدس المواقع في الهند، وتحت أنظار تمثال بوذا الذهبي، بعدها ستعود “توكجيه” إلى الديار، بينما تبقى “بالكيت” تتابع دراستها وصلواتها، لكنها توصيها قائلة: “قولي لوالديّ أن لا يقلقا علي، وأخبريهما أنني سعيدة، سأعطيك بعض الرسائل لهما”، ثم تتعانق الصديقتان عناق الوداع، وتختلط العبرات بدعوات التوفيق والوصايا.

تصوِّرُ حالةُ “بالكيت” و”تينزين” مثالين حيَّين على معاناة نساء زانسكار، ذلك العالم المنسيّ في جبال الهملايا، وقد يكون هذا هو تصور النساء جميعا هناك، ولكن لو قُدر لهنّ أو لبعضهن أن يرين حال النساء في مواقع أخرى من العالم، حتى في الدول المتقدمة منه، فسوف يحمدن الله كثيرا على ما حباهنّ من النعم وبساطة التكاليف، في هذه البقعة البدائية من العالم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق