مقالات

لحظاتٌ من وقتك لتتزوّد فكريًا * البديل الحضاري * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * عنوان السلسلة: “الصراع العقائدي في زمن الهيمنة: بين التوحيد والشرك الحضاري” * عنوان المقالة: “الإسلام كبديل حضاري: ملامح المشروع التوحيدي المعاصر” (10-11-12)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* تمهيد: الإسلام ليس ماضٍ يُستدعى بل مستقبل يُصاغ
لم يكن الإسلام يومًا دينًا للعبادة الفردية المنفصلة عن همّ الإنسان والمجتمع، واليوم، ومع تصدّع النموذج الرأسمالي وغرقه في أزماته البُنيوية، يتساءل المفكرون والأحرار:… ما السبيل للخروج من كوارث الرأسمالية وغيرها من الآيدلوجيات المعاصرة؟
– هنا يبرز الإسلام، لا بوصفه دين طقوس، بل كنظام شامل يعرض رؤيته الكونية للإنسان والعمران ضمن هذه النقاط:
* أولًا: الإسلام والإنسان الكامل
في صلب المشروع التوحيدي المعاصر، يقف “الإنسان” لا بوصفه رقماً في السوق…
هذا الإنسان، في التصور الإسلامي، ليس حرًّا بلا قيد، ولا عبدًا لسلطة دنيوية، بل حرٌّ بتحرره من العبودية لغير الله، ومن هنا تتفوق الحضارة الإسلامية على نظيراتها المادية، إذ توازن بين الجسد والروح، والغريزة والقيمة، والمصلحة والمبدأ.
* ثانيًا: التوحيد كنقطة ارتكاز حضاري
ليست العقيدة التوحيدية فكرة لاهوتية وحسب، بل هي أساس بناء اجتماعي وسياسي واقتصادي، فحين يؤمن الإنسان أن الله وحده هو الرازق، الحاكم، المدبّر، فإن ذلك ينعكس على سلوكه الفردي والأنظمة التي ينتمي إليها.
– من التوحيد تنبثق المساواة، إذ لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ومنه تولد العدالة، لأن الحاكم محكوم بالشرع، لا متأله على الناس.
ومن التوحيد كذلك تُشتق حرية الإنسان، لأنه لا يركع إلا لله ولا يبيع إرادته لسوقٍ أو سلطان، قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ (الأنعام: 57).
* ثالثًا: ملامح المشروع التوحيدي المعاصر
• تحرير الوعي من الاستلاب الحضاري
لم يعد كافيًا الدفاع عن الإسلام من موقع ردّ الفعل، بل آن الأوان لإحياء وعيٍ جديد، يعيد صياغة المفاهيم من منطلق إسلامي: التقدم، الحرية، المرأة، الفن، الاقتصاد… كلها مفاهيم شوّهتها الحداثة المادية، والإسلام يعيد توجيهها نحو مقاصد الاستخلاف.
• بناء الدولة الأخلاقية لا الدولة الأمنية
المشروع التوحيدي لا يقوم على أجهزة القمع، بل على قيم الشورى والعدل والمحاسبة، فالدولة في الإسلام ليست صنمًا يُعبد، بل جهازٌ يُسائل ويُقيّم.
• اقتصاد الزكاة لا اقتصاد الربا
في وقت تنهار فيه المنظومات الاقتصادية الغربية، يقدّم الإسلام نموذجًا تكافليًّا يربط المال بالقيمة والبركة، ويمنع الاحتكار، ويوزّع الثروة لا يكدسها، كما قال تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ (الحشر: 7).
• أمّة الرسالة لا أمّة الهامش
المشروع التوحيدي المعاصر يعيد للأمة دورها الرسالي في العالم، لا كقوة بطش وهيمنة، بل كقوة تحرير فكري وأخلاقي للبشرية من عبودية السوق والإباحية والتمييز العنصري.
* رابعًا: الإسلام كطريق للنهضة لا كحلم رومانسي
إن دعوة الإسلام إلى مشروع حضاري ليست حنينًا إلى الماضي، ولا حلمًا طوباويًّا، بل قراءة واقعية لما يمكن أن تقدمه الشريعة من حلول لأزمات الإنسانية.
ولذلك فإن المهمة ليست فقط شرح المشروع، بل بناؤه وتطبيقه في نماذج واقعية، تبدأ من الفرد وتنتهي إلى الأمة، وتتجاوز الحدود الجغرافية إلى آفاق الإنسانية كلها.
* ختامًا: عودة الروح إلى عالم منهك
الإسلام اليوم ليس مرشحًا ليكون أحد البدائل، بل هو البديل الحضاري الوحيد القادر على الجمع بين الإيمان والعقل، بين القيم والمصالح، بين الهوية والانفتاح، كونه البديل الشمولي لكل شيء، وفي زمن تتشظى فيه العقائد وتتهاوى فيه الإمبراطوريات، تلوح راية التوحيد مشروعًا للنجاة لا من الجحيم الأخروي فحسب، بل من الجحيم الحضاري المعاصر، ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ (طه: 123)… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “نحو وعي تحرري توحيدي: مسؤولية الجيل الجديد”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2016)
* 14 . محرّم .1447 هـ
* الأربعاء . 09.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)

************

وجبةُ تغذيةٍ للعقل
* توحيدٌ ووعي
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* عنوان السلسلة: “الصراع العقائدي في زمن الهيمنة: بين التوحيد والشرك الحضاري”

* عنوان المقالة: “نحو وعي تحرري توحيدي: مسؤولية الجيل الجديد” (11)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* تمهيد: زمن الضياع وواجب الصحوة
في زمنٍ تتشابك فيه خيوط الهيمنة الثقافية، وتُعاد فيه صياغة العقول والولاءات، لم يعد يكفي أن نقول إننا نؤمن بالله؛ بل المطلوب أن نعي ما يقتضيه هذا الإيمان في مواجهة نُظُم الشرك المعاصر.
فالتوحيد الذي بُعث به الأنبياء ليس مجرد مبدأ روحي، بل هو تحرر شامل من كل أشكال الخضوع لغير الله، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الفكر أو الاجتماع، أو التربية،
وهنا تتبدى مسؤولية الجيل الجديد: أن ينهض بوعي تحرري توحيدي يُعيد للأمة بوصلتها الحضارية من خلال ما يلي:
* أولًا: التوحيد… ليس عقيدة فقط، بل مشروع تحرر

حين يُحصر التوحيد في المساجد أو في الجوانب التعبدية فقط، يتم تجريده من روحه التحررية.
ففي القرآن، اقترن التوحيد دومًا بتحرير الإنسان من الطاغوت: ﴿فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى﴾ (البقرة: 256)، ومع ذلك، فإن المهيمنين على الأنظمة يفضلون “توحيدًا منزوع الدسم”؛ توحيدًا لا يعترض، لا يرفض الظلم، ولا يفضح الشرك السياسي والاقتصادي الذي يُنتج عبودية جديدة.

* ثانيًا: هيمنة المفاهيم… حين يُسلب الجيل سلاحه
جيل اليوم لا يُؤسَر بالقوة العسكرية، بل يُسلَب وعيه بالمفاهيم:
• “الحرية” = التحرر من الدين لا التحرر من الطغيان.
• “التقدُّم” = الاندماج في النموذج الغربي لا النهوض المستقل.
• “النجاح” = الثروة الفردية لا الرسالة الحضارية.
هنا تقع أخطر صُوَر الشرك الحضاري: أن تتماهى العقول مع ما يُفرض عليها من “قيم كونية” ظاهرها الرحمة وباطنها الطمس.

* ثالثًا: مسؤولية الجيل الجديد… من الإيمان إلى البنيان
الجيل الجديد ليس مطلوبًا منه أن يردّد فقط “لا إله إلا الله”، بل أن يُفعّل معناها في الواقع العملي:
• أن يرفض الولاء للمحتل والمستبد.
• أن يعيد تعريف النجاح بمعايير إيمانية.
• أن يُقيم البديل الإسلامي في الإعلام والتعليم والثقافة.
• أن يُؤمن أن التوحيد مشروع لبناء الحضارة، لا مجرد خطبة أو شعار.
وكلما ازداد الظلام، ازداد الواجب إلحاحًا.

* رابعًا: التحدي الإعلامي… وكيف يصوغ الوعي
ما يُبث اليوم في هواتف الشباب هو توحيد مقلوب:
تُقدَّس فيه الشهرة، ويُتَّبع فيه الهوى، ويُعاد تشكيل الإله في صورة “أنا” الفرد المتحرر من كل قيد.
هنا تأتي مسؤوليتنا في بناء وعي إعلامي تحرري، لا يُكتفى فيه بالنقد، بل يُنتج مادة تشحن العقل والروح:
رسائل، ريلز، مقاطع، قصص، مشاريع، توصل “لا إله إلا الله” للعصر بلغة يفهمها الجيل.

* ختامًا: لا وعي بلا توحيد، ولا تحرر بلا إيمان
التغيير الحضاري لا يبدأ من الأنظمة، بل من الأفكار.
ولا يصدُر عن النخب وحدها، بل عن الجيل الجديد حين يحمل الإيمان لا بوصفه مجرّد طقسٍ بل مشروعًا للحياة الشمولية.
الوعي المطلوب اليوم ليس “نقديًا” فقط، بل “توحيديًا”…
وعي يُدرك أن التوحيد هو الجذر، والتحرر هو الثمرة، والمسؤولية على عاتق كل من وعى. ﴿إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى﴾ (الكهف: 13) فهل نكون منهم؟
ثمّة أمل لا يُطفأ حين يحمل الجيل الجديد لواء التوحيد عن وعي، ويفهم أن التحرر لا يبدأ من الشارع، بل من القلب والعقل والإرادة، ولا يكون الوعي حقيقيًا إلا إذا قاده الإيمان.
فلنجعل شعارنا: التوحيد المحرِّر من كل شِرك… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “الحقيقة قد تُدفن ولكنها لا تموت أبدًا”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2017)
* 15 . محرّم .1447 هـ
* الخميس . 10.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)

**************

يخسر من لا يقرأ المقالة
* الحقُّ الخالد
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* عنوان السلسلة: “الصراع العقائدي في زمن الهيمنة: بين التوحيد والشرك الحضاري”

* عنوان المقالة: ” الحقيقة قد تُدفن ولكنّها لا تموت” (12)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* تمهيد:
في معترك التاريخ، لم يكن الصراع بين الحق والباطل صراعًا متكافئًا في القوة الظاهرة، لكنه دائمًا متكافئ في الحُجّة والثبات.
فقد يعلو صوت الباطل، وتُخرَس الألسن الصادحة بالحق، وتُطارد الكلمة الصادقة، لكن الحقيقة – بوصفها تجليًا من تجليات التوحيد- لا تموت.
بل تعود كل مرة، وإن دُفنت تحت ركام التضليل، فسرعان ما يُزيحها الزمن، أو تُنبتها الأرواح المؤمنة الصادقة
وإليكم خمس نقاطٍ أحاول معالجة هذا العنوان وأجلّيه لحضراتكم
* أولًا: التوحيد… الحقيقة الكبرى التي لا تُطفأ
في هذا العصر الذي تُهيمن فيه الرأسمالية المتألهة، وتُحرَّف فيه المفاهيم، يبرز التوحيد كأعظم حقيقة مغيّبة.
فما أكثر محاولات الأنظمة الحديثة لطمس هذه العقيدة تحت مسميات “الحرية الفردية” أو “التعددية الروحية”، لكنها جميعًا تصطدم بهذه الحقيقة التي لا تموت أن: (لا إله إلا الله) ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصف: 8)
* ثانيًا: أدوات دفن الحقيقة في العصر الحديث
لا يُدفن التوحيد اليوم بالسيف، بل يُدفن عبر:
• الإعلام الموجَّه: حيث يُشيطن دعاة الحق، ويُبرَّأ طغاة الظلم.
• تحريف المفاهيم: حيث تُستبدل العقيدة بالإحسان، والجهاد بالتنمية، والولاء لله بالولاء للوطن أو السوق.
• صناعة رجال دين مزيّفين: يُفتون بما يُرضي الحاكم، ويُجمّلون القمع باسم الاستقرار.
لكنّ أبشّركم أن هذا الدفن مؤقت، فالله وعد عباده أن يُظهر دينه: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (التوبة: 33)
* ثالثًا: الحقيقة حين تنبعث من الرماد
من بين الركام دائمًا ما يخرج صوتٌ لا يُقهر، يُعيد للحق نبضه.
هكذا كانت دعوات الأنبياء في وجه الفراعنة والطغاة المتجبرين، وهكذا عادت حركات الصحوة، وهكذا يعود شباب الأمة في كل زمان يحملون مشعل التوحيد، لا بوصفه شعارًا بل منهاجًا يُقاوم الطغيان، ويُواجه التحريف، ويُوقظ الضمير. ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾ (التوبة: 32)
* رابعًا: الصمت ليس حيادًا
في معركة الحق، لا مكان للحياد، فالصمت أمام طمس التوحيد هو تواطؤ بصيغة أخرى.
لقد كانت أعظم خيانات التاريخ هي تلك التي ارتكبها الصامتون حين وُئِدت الكلمة، وتسلّط الباطل، قال ﷺ: “من رأى منكم منكرًا فليغيّره..”، والصراع العقائدي اليوم من أعظم المنكرات التي تتطلب قول الحق، مهما كان الثمن.
* خامسًا: منابر الحق… منصات المقاومة
في زمن الهيمنة الإعلامية، تصبح كل منصة صادقة منبرًا للتوحيد.
فلا تستهِن بكلمة، أو خطبة، أو منشور، أو محادثة، فربّ دعوة صدق تُحيي أمة.
إن الواجب اليوم على المصلحين أن يقتحموا الفضاءات الجديدة لا ليُزاحموا الباطل فقط، بل ليبنوا بديلًا ربانيًا يحمل النور إلى القلوب المعتمة…؛-وهذا الموضوع بمشيئة الله سوف أُفرد له مقالة-
* ختامًا: التوحيد لا يُقبر
قد تُغتال الحقيقة، وتُسجن الكلمة، وتُحاصَر العقيدة، لكن الوحي لا يموت.
والتوحيد لا يُقبر، بل هو وعد الله بالظهور، وبقاء الطائفة المنصورة.
﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ (الرعد: 17)
الحقيقة قد تُدفن… ولكنها لا تموت أبدًا.
واعلم أخي / أختي القارئة: أنه حين ترى الباطل يعلو، والكذب يُحتفى به، والحق يُسجن أو يُشوَّه… تذكّر أن الحقيقة لا تموت.
هي تغفو، لكنها لا تفنى.
يُطفأ نورها ظاهرًا، لكن شعاعها يبقى حيًّا في القلوب، حتى يأذن الله ببعث جديد.
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾ (الحج: 40).. ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2018)
* 16 . محرّم .1447 هـ
* الجمعة . 11.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)

اترك تعليقاً

إغلاق