مقالات

الرحيل في عالم الأحلام …هو هو رؤيا ؟ وماذا يفيد ؟

بقلم : عائشة الخواجا الرازم

قبل اثنين وأربعين عاما وكنا نسكن في قاعدة الحسين الجوية في المفرق ( صارت كلية بعدما أصبحت لتدريب الطيارين في السلاح ) رأيت في المنام صديقتي الحبيبة الحميمة( فضية بصبوص ) زوجة الشهيد الطيار النسر المقاتل صديقنا الحميم الغالي حسين بصبوص .
رأيتها على حافة جدول مياه سريع الجريان ، وشعرها الأسود الطويل ينسحب في الجدول وهي تحاول جاهدة التقاط ملابس زوجها الرسمية وبعض قطع أثاث من منزلها وأغراض خاصة لهما ، وكانت في المنام هذا مجهدة ومتعبة وتلهث لإعادة شعرها الذي تسحبه مياه الجدول ، فتلملمه وتضيع وتنسحب من بين يديها الكثير من أغراضها المسحوبة والمنهمرة بسرعة من أعلى الجدول باتجاهها …
كنت في المنام هذا أصرخ وأنادي : أم رعد ..أم رعد … ابعدي عن المية …شعرك يا أم رعد !

وصحوت على يد زوجي جبريل الطيار المقاتل يسمي علي ويهديء من روعي ويوقظني .
جبريل الذي تربطه صداقة عزيزة مع حسين بصبوص الشهيد الذي لا يضيع من قلوبنا أبدا رغم مرور نيف وأربعين عاما على استشهاده ..قال لي : ماذا رأيت ؟
سردت له الرؤيا المرعبة … فطلب مني قراءة إيات من القرآن والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم .
في الصباح .. هاتفت أم رعد كعادتنا في الصباح .. ولم ترد على مكالمتي …
قلت الأفضل ومثل معظم الصباحات أدق باب بيت صديقتنا وجارتنا أم حسام أبو حشيش زوجة العميد المهندس محمود أبو حشيش وبيتها أمام بيتي مباشرة ..
وما أن لامست جرس الباب حتى سمعت صراخا وبكاء مريرا من حنجرة ( زكية ) أم حسام …
دفعت الباب وإذ بزكية تجهش بالعويل وهي تضع رأسها على كتفي ..ولم تنبس ببنت حرف ..
احتضنتها دون أن أسأل عن أي سبب يجري ويفور حتى يدفع زكية العاقلة الهادئة التي بالكاد يتجاوز صوتها حنجرة الصلاة ..
احتضنتها … وبكيت معها بكاء مريرا لوجه الله دون معرفة أي برهان .
فجأة وبدون سابق إنذار …فج صوت زامور الطواريء وعلت مكبرات الصوت في أرجاء القاعدة الصغيرة الجميلة … القاعدة الجوية والتي يحملها نسور الفضاء بطلعاتهم كل صباح … بعد ان نودع أزواجنا الأبطال وندعو لهم بالسلامة والهبوط برعاية الله… ونربت على أكتافهم وهم يثبتون الرتب العسكرية والجناح على أوفرهولات الطيران ونبدأ العمل والانتظار في الظهيرة وفضاء المفرق مع نسماته الندية يداعب غرة القاذفات التي لا نخشى أصواتها وأزيزها المعهود فوق رؤوسنا المرفوعة …
فنحن زوجات العسكريين والمقاتلين جبلت أعصابنا مع الصبر والدعاء والنشاط والصحو باكرا مع الشمس والانتماء للمفاجآت وقوة الإيمان بالله !

ارتفع عويل بوق الخطر وكأن حربا تدور رحاها في السماء …
فتشبثت بصديقتي زكية ، وهمست : أنا شفت فضية في الحلم يا زكية !
همست : ما عرفتي ؟
قلت بحنجرة مشروخة : يا رب …شو ..يا زكيه ؟
همهمت وهي تغرق بالويل والدمع : فكرتك جيتي لأنك عرفتي ! وأضافت : أنا سمعت الخبر من أبو حسام قبل دقائق …
أمسكت يديها .. جيت عشان نصبح على فضية ونشرب عندها فنجان قهوتنا …شو الخبر …مين يا زكيه ؟
صمتت واعتصرت رأسها …وأنا خرساء …مين اليوم من الطيارين يا زكيه ؟
…..
ارتفعت مكبرات الصوت في فضاء القاعدة :
( الشهيد الطيار المقاتل النقيب حسين بصبوص والشهيد الطيار المقاتل النقيب سمير الزعبي …استودعانا الله في صباح هذا اليوم ، خلال رحلة تدريبية على طائرة البلدق … ننعى إلى وطننا وإلى نسور سلاحنا الجوي نسرين شابين من قلوبنا …)
وأغلقت المكبرات …والعيون تذرف …وجمال القاعدة يتحول في حلمي إلى جدول متسارع المياه يسحب شعر أم رعد وأثاث منزلها …ومؤكد أنه كان يسحب شعر خطيبة سمير زين الشباب العريس المنتظر زفافه بعد أيام وتغادرنا أم رعد … ولما نزل نفسر العلاقة بين الجو وبين الجدول وبين ضياع شعر المرأة عن رأسها وبين سقوط النسر من أعلى فضاء للوطن إلى أعلى السموات !!
ودع الطيارون أحبتهم …وعادوا …
لكن أول عبارة قالها لي أبو حسين بعد عودتهم من الجنازة المهيبة :
حلمك ليلة امبارح كان رؤيا …سبحان الله …
قلت : وما الفائدة والرؤيا ..رؤيا رحيل ؟
أجاب : شهداء أحياء عند ربهم يرزقون …
عائشة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق