منوعات
في أواخر القرن التاسع عشر، نشأت علاقة تُعد من أغرب وأرقى قصص الارتباط الروحي في التاريخ، بين عبقري الموسيقى الروسية بيوتر إليتش تشايكوفسكي، وسيدة أرستقراطية غامضة تُدعى ناديجدا فون ميك.

كانت ناديجدا أرملة ثرية، تجاوزت الأربعين من عمرها، مولعة بالموسيقى إلى حد العشق، شغوفة بأنغام الكمان أكثر من ضجيج المجتمع. حين سمعت أعمال تشايكوفسكي للمرة الأولى، لم تسمع مجرد ألحان… بل شعرت وكأن روحه تناديها من خلال النوتات.
قررت ناديجدا أن ترعاه فنيًا، فبدأت ترسل له المال سرًا في البداية، ثم كشفت عن نفسها لاحقًا في رسالة رقيقة، تعرض فيها أن تدعمه ماليًا ليتفرغ للإبداع، دون أن تطلب منه أي مقابل شخصي.
وهكذا بدأت مراسلات بينهما استمرت أكثر من 13 عامًا. أكثر من 1200 رسالة تناثرت بين موسكو وباريس، بين الريف الروسي وسحر المدن، تتبادل فيها الروحان مشاعر صادقة، مزيجًا من الاحترام، التقدير، الحنان، والإعجاب العميق.
لكن الغريب والعجيب، أن ناديجدا اشترطت أمرًا واحدًا: ألا يلتقيا أبدًا.
قالت له ذات يوم في إحدى رسائلها:
“لا أريد أن أراك… ليس خوفًا منك، بل خوفًا على ما بيننا. إن رؤيتك قد تكسر شيئًا مقدسًا في داخلي، وأنا لا أحتمل ذلك.”
ورغم غرابة هذا الشرط، وافق تشايكوفسكي، لا عن ضعف، بل لأنه أدرك أن ما يجمعه بهذه المرأة أكبر من أن يُقاس بلقاءٍ جسدي أو نظرة عابرة.
كانا يعيشان في مدن متقاربة، وأحيانًا في شارع واحد، دون أن يلتقيا. كانت تُرسل له مواعيد خروجها بدقة حتى لا يصادفها، وكان إذا لمح طيفها في الأفق، يبتعد في صمت، خاشعًا أمام رغبتها الغريبة.
في إحدى المرات، أعدت له ناديجدا فيلا صغيرة قرب قصرها، زودته بكل ما يحب: بيانو، كتبه، سجائره، وحتى أدويته. ومع ذلك، لم تحاول أن تقترب منه، وظلت تُخبره برسائلها:
“قربك من دون رؤيتك… يجعلني أسعد امرأة في هذا العالم.”
ومع مرور السنوات، تحوّل التقدير إلى محبة عميقة، ثم إلى شوق لذيذ، لا يشبه الشغف العادي، بل يشبه اشتياق السماء للأرض. حبٌ بلا لمس، بلا عيون، بلا لقاء… لكنه حبٌ نبيل، نقي، عابر لكل الحواس.
لكن كما كل القصص التي تلامس الخلود، كان لا بد أن يتسلل الحزن إليها.
فجأة، توقفت الرسائل.
وجاءه خبر صادم: ناديجدا مريضة، وطلبت من صهرها أن يخبره أنها لم تعد قادرة على الكتابة.
حزن تشايكوفسكي حزنًا عظيمًا، وكتب بعدها أشهر أعماله وأكثرها وجعًا: السيمفونية السادسة (Pathétique). قال عنها النقاد: “كأن الموسيقى نفسها تبكي.”
وبعد أربعة أيام من عرضها لأول مرة، في 3 أكتوبر 1893، أُصيب تشايكوفسكي بحالة صحية غامضة، قيل إنها الكوليرا، وقيل غير ذلك… لكنه في لحظاته الأخيرة، كان يردد اسمًا واحدًا: “ناديجدا… ناديجدا…”
فتح عينيه لحظة، وكأنه يبحث عنها بين الغيوم… ثم أغمضهما إلى الأبد.
وماتت ناديجدا بعده بعامين، وكأن روحها رفضت أن تستمر في عالم لم يعُد يضم من أحبته بعمق.
هكذا خُلّدت قصة حب… لم تُبنَ على لقاء، بل على رسالة…
لم تُغذَ بالكلمات المسموعة، بل بالمشاعر المكتوبة…
ولم تنتهِ بالرحيل، بل بدأت فيه.