
من مقعدي في شرفة فندق الأرز في بيروت كنت شاهدا على أحوال ذلك الشارع ..انتظر اقتراب المساء فاهرع إلى المقعد واجلس عليه وارخي جسدي المتعب ..منذ أن جئت إلى تلك المدينة العابقة برائحة البحر في أوائل السبعينات من القرن الماضي نزلت في ذلك الفندق الصغير الذي أعادني إلى الماضي …
قدمت وثيقة سفري الفلسطينية المصرية ذات اللون الأزرق في مساء ذلك اليوم وكان يصادف ثالث يوم من أيام العيد وكانت بيروت ما زالت تعيش مظاهره على استحياء ..قدمتها إلى أبي عبدو صاحب الفندق وكان يجلس وحيدا وراء الطاولة ..هذه أول مرة أشاهده فيها فيبرز لي على الفور وجه جارنا في غزة العريض الممتلىء. .عيناه الواسعتان البراقتان اللتان تبحثان خلف نظارة سميكة عن أشياء بين رفوف بقالته الصغيرة..كانت عيناه اللامعتان تلك تشخصان ايضا في كل قادم خاصة الأطفال الذين كانوا واقفين عند الباب في أيديهم نقود العيدية .. .في تلك البقالة التي كان يمتلكها جارنا ربيع كان يجلس وراء الطاولة تماما مثل صاحب الفندق ..إنها ذات الجلسة ونفس الزي الذي كان يرتديه كل واحد منهما ..القمباز الأبيض المخطط الشامي والطربوش والشملة العريضة الموشاة بخطوط ملونة يلفها كل واحد منهما على وسطه ..أحدق في وجه صاحب الفندق فيطل في عيني وجه جارنا ربيع العريض الممتلىء. الأنف والشارب الأبيض الكث الذي بلون قطعة الرخام والنظارة السمكية والأسنان الفضية المرصوصة التي تجذب الناظر لملاحظتها. .هناك على باب البقالة جلست طويلا على كرسي القش ..كان يخرج ربيع الكرسي ويقول لي اجلس ..في بعض المرات كان يجلس إلى جواري ويقول : كان لوالدي في البلد بقالة أكبر من هذه وكان بجوارها بيتنا وبه شجرة توت كبيرة ..كان لنا في البلد ايضا بيارة برتقال ودواب ..كل هذه الأشياء تركناها وخرجنا عام 48. … اخر مرة رأيته قبل أن أغادر غزة إلى عالم الشتات كان يقفل باب بقالته بالمفتاح الكبير الذي يشبه مفتاح بيتهم في البلد وكان ولده الصغير بالقرب منه …. سألني أبو عبدو صاحب الفندق وهو يبتسم اذا كنت بحاجة إلى النوم في غرفة خاصة بي لوحدي أم مع نزلاء أخرين فقلت له وانا أشعر بالضيق مع نزلاء آخرين ..تتوثق العلاقة مع أبي عبدو فاجلس بجواره بعد العصر فيتحدث هو الآخر بشوق عن أعياد أيام زمان .. يتدفق الدم في عروق وجهه وتطفر من عينه دمعه على الماضي .. لقد رأيت فيه الشيء الذي كنت أراه في شخص ربيع صاحب البقالة في غزة …هكذا كان أبو عبدو ينتشلني كل يوم في ساعة العصر عند اقتراب المساء من بين أوجاعي فأجد اللذة في سماع أيامه الماضية فأسمع صوته يتماوج في أذني مع انسام البحر الباردة المتدفقة عبر الشوارع الزجاجية المليئة بالضجيج وكان لي الحق أن أتحدث مع نفسي وانا أحدق في وجهه الأبيض العريض الممتلىء. ..